تعفن الدماغ!

تعفن الدماغ!

حيوية | October 2, 2025 بواسطة أميرة خليفة

أميرة خليفة
أميرة خليفة
منذ 19 ساعة
مشاركة:
تعفن الدماغ!

كم مرة وجدت نفسك تائهًا بين عشرات الفيديوهات القصيرة، وتشعر بعجز عن إيقاف نفسك عن متابعة التمرير إلى الأسفل؟
 هل فكرت كم "تريند" مرّ أمام عينيك على مواقع التواصل خلال السنة الماضية فقط، وكمية الناس الذين تفاعلوا معه؟
 ومتى كانت آخر مرة استطعت أن تركز لأكثر من عشر دقائق بسهولة؟

نعيش اليوم حقبة جديدة لا تشبه أي حقبة سابقة؛ نتعرض فيها إلى مؤثرات حسية ومعلومات تفوق قدرتنا على الاستيعاب. وما تشعر به أنت كفرد ليس أمرًا خاصًا بك، بل هو توجه عالمي ومشكلة حقيقية بدأت تظهر نتائجها بوضوح، وأبرزها ضعف التركيز. حتى أن عبارة "تعفن الدماغ" اختيرت كإحدى كلمات العام في معجم أكسفورد لسنة 2023، في إشارة إلى التراجع المعرفي البشري في يومنا.

يبقى السؤال من الناحية العلمية مفتوحًا اليوم حول مدى صحة مصطلح تعفن الدماغ، ولكن الأكيد أن دماغنا يتعرض لخلل كبير بغض النظر عن المسميات.

كيف يصبح المحتوى الرقمي إدمانًا؟

الدماغ يدير عمليات معقدة مسؤولة عن الإدراك والفهم عبر شبكات مترابطة تعمل بدقة عالية، وتتأثر بعوامل جينية وعادات يومية. أكثر المناطق تأثرًا هي دوائر المكافأة والتركيز، المسؤولة عن إفراز الدوبامين عند الإنجاز أو اللقاء مع الآخرين. في الوضع الطبيعي، يكون هذا الإفراز مفيدًا ومتوازنًا، لكن المحتوى الرقمي اليوم يحفز هذه الدوائر بجرعات متكررة وغير محسوبة.

عندما تشاهد فيديو قصير، تنقل عيناك وأذناك المعلومات إلى الدماغ، وتتدخل مناطق المشاعر مثل اللوزة الدماغية لتقييم المحتوى. إذا كان جذابًا، يُفرز الدوبامين فتشعر بالمتعة وتنغمس لمشاهدة المزيد. هذا التكرار يجعل الدماغ معتادًا على المكافآت الفورية، ويضعف الصبر والتركيز في المهام الطويلة مثل القراءة أو الدراسة، فينخفض مدى الانتباه تدريجيًا.

في مقابلة أجريت مع مصمم فكرة التمرير للأسفل، أزا رازكين، عبّر عن شعوره بالأسف الشديد جراء ما توصلت إليه هذه التقنية، وعن مدى تأثيرها السلبي على حياة الأجيال القادمة.

كما يُشار إلى أن أسوأ سمة تصميمية في وادي السيليكون هي التمرير اللانهائي، الذي يُشبه تجربة "وعاء الحساء الذي لا نهاية له"، حيث يستمر المشاركون في تناول الطعام من وعاء الحساء دون وعي.

من البريد الإلكتروني إلى إدمان المحتوى 

لا يعتبر الحديث عن آثار الإنترنت على بنية دماغنا حديثًا، إذ بدأ مع ظهور الإنترنت في بداية الألفية، حين كانت المخاوف تدور أساسًا حول البريد الإلكتروني وما يسببه من تدفق الرسائل المستمر وتشتيت الانتباه. آنذاك، كان أكبر قلق يتمثل في أن يغرق الموظفون والطلاب في بحر من الرسائل والردود، بما يعيق قدرتهم على التركيز والعمل المتواصل.

لكن الوضع الذي نعيشه اليوم مختلف تمامًا وأكثر تعقيدًا. الإنترنت لم يعد مجرد وسيلة لتبادل معلومات أو رسائل مكتوبة، بل تحوّل إلى منظومة متكاملة من المنصات تُدار بخوارزميات مصممة خصيصًا لجذب انتباهنا. تدير هذه المنصات شركات مهيمنة على كل شيء، بما فيه العقل البشري، تتغذى على الرأسمالية والكسب على حساب المجتمع بأكمله.

ما كان يُنظر إليه قبل 20 عامًا مجرد مصدر إزعاج إداري، أصبح اليوم تحديًا عصبيًا ومعرفيًا عالميًا. نحن أمام جيل كامل يتعرض منذ طفولته إلى أنماط من التحفيز لم يعرفها أي جيل سابق: صور متدفقة، مقاطع فيديو لا تنتهي، ومؤثرات سمعية وبصرية سريعة الإيقاع تُعيد تشكيل طريقة تركيز الدماغ نفسه.

ربما يبدو مصطلح "تعفن الدماغ" بعيدًا عن الصحة العلمية، لكن الواقع يقترب جدًا منه إذا استمر سيل المحتوى السريع يتسلل إلينا بهذه السهولة.


احصل على إشعار لكل مقال جديد!