جونسون آند جونسون تُلزم بدفع 966 مليون دولار في قضية وفاة بالسرطان

جونسون آند جونسون تُلزم بدفع 966 مليون دولار في قضية وفاة بالسرطان

حيوية | October 30, 2025 بواسطة أميرة خليفة

أميرة خليفة
أميرة خليفة
منذ يوم
مشاركة:
جونسون آند جونسون تُلزم بدفع 966 مليون دولار في قضية وفاة بالسرطان

مقدمة

أعلنت لجنة التحكيم في لوس أنجلِس الحكم على شركة جونسون آند جونسون بدفع مبلغٍ يقارب مليار دولار أمريكي، بعد دعوى قضائية رُفعت ضدها من قبل عائلة السيدة إيفلين مورو.  تتهم الدعوى الشركة بأن مورو توفيت بسبب سرطان المتوسطة (ميزوثليوما)، وهو مرض نادر وخطير يُصيب الأغشية الرقيقة المبطّنة للأعضاء الداخلية، وكان سببه بودرة الأطفال المصنَّعة من قبل الشركة، والتي تبين احتواؤها على ألياف الأسبستوس السامة.

توفيت مورو عن عمر ناهز الثمانين عامًا، بعد معاناة طويلة مع المرض. ومن المعروف أن هذا النوع النادر من السرطان عادةً ما يُصيب العمال في المناجم والمصانع الذين يتعرضون ويستنشقون الأسبستوس، وهو العنصر السام الأساسي الذي يؤدي إلى الإصابة بسرطان الأغشية المبطّنة للرئة أو البطن.
 وقد اعتبرت المحكمة أن الشركة أخفت معلوماتٍ علمية عن مخاطر استخدام بودرة التلك المحتوية على الأسبستوس، مما جعلها تتحمل مسؤولية قانونية وتعويضية جسيمة.

ماهي بودرة التلك؟

بودرة التلك هي مسحوق أبيض اللون مصنوع بشكلٍ أساسي من مادة التلك، وهو معدن يتكوّن من المغنيسيوم والسيليكون والأكسجين. يُعرف هذا المعدن بقدرته على امتصاص الرطوبة ومنع الاحتكاك، مما جعله مادة مناسبة جدًا للاستخدامات التجميلية والطبية.  يتواجد التلك بين الصخور، لذا فإن تنقيته واستخلاصه بشكله النقي من دون أي ترسّبات أخرى ليس بالأمر السهل.

اُستخدمت بودرة جونسون لعقودٍ طويلة من قبل الأطفال والبالغين، إذ كانت تُعرف قديمًا بأنها حلٌّ للعديد من المشاكل الجلدية.
  فكانت تُستخدم عند ظهور الطفح الجلدي، أو عند تبديل حفاضات الأطفال، وغيرها من الاستخدامات الأخرى، نظرًا لقدرتها على إبقاء الجلد جافًا.

لكن هذه البودرة واجهت، منذ سبعينيات القرن الماضي، العديد من الدعاوى القضائية التي تتّهمها بأنها سبب رئيسي للإصابة بعدد من السرطانات النادرة التي يصعب الكشف عنها، مثل سرطان المبيض وسرطان الرئة. ويبقى السؤال المطروح:

هل تُعتبر مادة التلك فعلًا مادة مُسرطِنة؟

صنّفت الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC) في يوليو 2024 مادة التلك  حتى في حال خلوّها من الأسبستوس، بأنها “مرجّحٌ أن تكون مُسرطِنة للبشر” (المجموعة 2A). والمهم أيضًا أنّ معظم الدراسات البشرية لا يمكنها استبعاد احتمال تلوّث بعض منتجات التلك بالأسبستوس، وهو مُسرطنٌ مؤكد من الفئة 1، مما يزيد من صعوبة فصل التأثيرات بين التلك نفسه والأسبستوس في بعض الحالات.

أحدث الدراسات حول التلك والسرطان

في التقرير نفسه لـ IARC جرى استعراض عددٍ كبير من الدراسات التي بحثت الارتباط بين التلك وأنواع من السرطان، وقُسِّمت الدراسات والنتائج إلى عدّة محاور:

دراسات الشواهد والحالات (Case–Control Studies): 

تمت دراسة ما يزيد عن ثلاثين ألف حالة لنساء عانين فيما من السرطان. الدراسات في هذه الحالة في الغالب، قائمة على ذاكرة المريضة، حيث إنها تعود للماضي، وتُسأل حول استخدامها للبودرة من عدمه.

وهذا النوع من الدراسات عُرضة لما يُعرف بـ تحيّز الاستدعاء (Recall Bias)، أي أن تكون الشاهدة أكثر ميلًا لربط إصابتها السابقة باستخدام المنتج، مما قد يؤدي إلى انحرافٍ في النتائج النهائية.

ويذكر أن مرض سرطان المبيض من السرطانات التي يصعب كثيرًا تشخيصها في مراحله الأولى، ولا يتم الكشف عنه عمومًا إلا وهو في مراحله الأخيرة، أي ربما بعد عشر أو عشرين عامًا من بداية نشوئه وانتشاره في الجسد.

لذا، وبسبب المدة الزمنية الكبيرة، توجد تحفظات على نتائج هذا النوع من الشهادات. ومع ذلك، وُجدت زيادة طفيفة في الخطر بين النساء اللواتي استخدمن بودرة التلك بشكل منتظم.

دراسات الأتراب (Cohort Studies)

ومعنى هذا النوع من الدراسات هو وضع فئة معينة من النساء لفترات طويلة تحت المراقبة و تتبعهم وهم أصحاء، ويبقين تحت المراقبة لمدة طويلة تقارب العشرين عامًا. وفي نتيجة هذه الدراسات لم تُجد زيادة كبيرة أو ثابتة في خطر الإصابة بالسرطان.

الأدلة الحيوانية (Animal Evidence): 

حسب تقرير IARC، تم إجراء تجارب على الجرذان والفئران عبر استنشاق التلك أو زرعه داخل التجويف البطني. وفي نتيجة الدراسات، لوحظت أورام في الرئة والتجويف البطني بعد تعرّض الحيوانات لجزيئات التلك لفترات طويلة وبكميات عالية. وتُعتبر هذه الدراسات دليلًا يؤكد تكوّن الأورام في الإناث المعرضات لاستنشاق مزمن للتلك.

الأدلة الميكانيكية (Mechanistic Evidence): 

يُعتبر هذا النوع من الأدلة من أهم محاور تقييم IARC، لأنها توضح كيف ولماذا يمكن لمادة ما أن تسبّب السرطان على المستوى الخلوي. في حالة التلك، تركّزت هذه الدراسات على فهم التغيرات التي يُحدثها التعرض طويل الأمد لجزيئات التلك، خصوصًا إذا كانت ملوثة بالأسبستوس داخل أنسجة الجسم.

أظهرت الأدلة أن التعرّض المزمن للتلك الملوث قد يؤدي إلى سلسلة من التفاعلات البيولوجية تبدأ بـ الالتهاب المزمن الناتج عن محاولة الجهاز المناعي التخلص من الألياف المعدنية دون نجاح.
 تحاول الخلايا المناعية ابتلاع الألياف لكنها تفشل، مما يؤدي إلى استجابة التهابية مستمرة تُطلق خلالها مواد مؤكسدة قوية تُعرف باسم الجذور الحرة.  

هذه المواد تهاجم الحمض النووي داخل الخلايا، وتُحدث طفرات جينية في الجينات المُنَظِمة لانقسام الخلايا وموتها الطبيعي، مما يمهّد لتطور الأورام السرطانية. ومع تراكم هذه الطفرات عبر الزمن، تفقد الخلايا السيطرة على الانقسام والموت المبرمج، فتتحول إلى خلايا غير طبيعية تتكاثر بشكل مفرط لتكوّن ورمًا خبيثًا، مثل ورم المتوسطة الخبيث (Mesothelioma) في بطانة الرئة، أو سرطان المبيض في حالات الاستخدام التناسلي المزمن لبودرة التلك.

ورغم أن الأدلة الوبائية على البشر ما تزال محدودة ومتباينة، فإن وجود هذه الآليات البيولوجية المفهومة يعزّز القلق العلمي بشأن سلامة الاستخدام الطويل لبودرة التلك.
 ولهذا السبب، اعتبر تقرير IARC أن التلك المستخدم في مستحضرات التجميل يدخل ضمن الفئة (2A) — أي أنه مرجّح أن يكون مُسرطنًا للبشر — بينما يُصنَّف الأسبستوس نفسه ضمن الفئة (1) كمسرطن مؤكد.

بين الربح والضمير: قضية تتجاوز المحكمة

هذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها شركة جونسون آند جونسون لهذا النوع من القضايا، إذ يُقدَّر أن عدد القضايا المرفوعة ضدها يقارب 60,000 إلى 65,000 دعوى في مجالات مختلفة، أهمها الإصابة بالسرطان.وللآن ما زالت الشركة تنفي وجود مادة الأسبستوس المسرطِنة داخل منتجاتها، رغم أنها توقّفت عن تصنيع بودرة التلك في الولايات المتحدة عام 2020، وفي باقي دول العالم عام 2023، واستبدلت التلك بمادة نشاء الذرة.

تم تسريب العديد من الوثائق الداخلية نشرت عبر تقرير رويترز الذي نُشر عام 2018، والذي يثبت أن شركة جونسون ، كانت على علمٍ باحتواء التلك على نسب ولو قليلة من الأسبستوس.  ومع ذلك، أصرت جونسون على موقفها بالرفض، معتبرةً التقرير مغرضًا ولا يمثّل الحقيقة.

من بودرة التلك... إلى ثقافة المقاطعة

 حكم المحكمة بتعويض أسرة مورو بمبلغ 966 مليون دولار ليس مجرد انتصار قانوني، بل هو رسالة  وإن كانت متأخرة، بأن المال لا يجب أن يكون مبررًا للسكوت عن المخاطر. المسألة تتجاوز مورو، إنها قضية عالمية عن الشركات التي تضع الأرباح فوق البشر، وعن الأنظمة التي تسمح بذلك، سواء بالصمت، أو التواطؤ، أو التعقيد العلمي الذي يُقصي الضحايا من الفهم والمساءلة.

في ختام القضية، لا يمكن فصل هذا النوع من الانتهاكات الصحية عن الممارسات الاقتصادية والسياسية الكبرى التي نشهدها.
 الحديث عن المقاطعة الاقتصادية لبعض الشركات لم يعد مجرد رد فعل على موقف سياسي، بل ضرورة صحية وأخلاقية في وجه نماذج اقتصادية لا تعبأ بسلامتنا، ولا بإنسانيتنا. ربما، كما يقول محامي عائلة مورو: "لقد آن الأوان أن تتحمّل الشركات مسؤولياتها الأخلاقية، لا فقط القانونية. حياة البشر أثمن من الأرباح."



احصل على إشعار لكل مقال جديد!