وفاة جيمس واتسون - مكتشف بنية الحمض النووي

وفاة جيمس واتسون - مكتشف بنية الحمض النووي

حيوية | بواسطة أميرة خليفة

أميرة خليفة
أميرة خليفة
مشاركة:
وفاة جيمس واتسون - مكتشف بنية الحمض النووي

أتذكر أول درس لي في جامعتي أثناء دراسة الهندسة الحيوية، في مادة البيولوجيا الجزيئية، حين عُرضت لنا صورة شاب وزميله يشيران إلى هيكل حلزوني مذهل. حينها تعرفنا على أحد مكتشفي شكل هذا الحلزون المدهش للحمض النووي، الاكتشاف الذي فتح بعدها آفاقًا واسعة للعديد من الدراسات والاكتشافات العلمية. لا يمكنك أن تكون مهتمًا بهذا النوع من العلوم ولم يمر عليك اسم هذا العالم من قبل.

في نوفمبر من هذا العام، توفي العالم الأمريكي جيمس واتسون عن عمرٍ يناهز 97 عامًا. عُرف واتسون بالثورة العلمية التي أحدثها في مجال الوراثة والعلوم الجزيئية، إلى أن أصبح اسمه مرتبطًا بها، قبل أن يتحوّل لاحقًا من لقب “العالِم العبقري” إلى “العالِم المتهم بالعنصرية”. واتسون، الذي وُصف بالعبقرية المبكرة، التحق بجامعة شيكاغو وهو في الخامسة عشرة فقط، وهو عمر لم يكن مألوفًا آنذاك لدخول الجامعة. ينحدر من عائلة متواضعة، ويُقال إن والده من المهاجرين الإنجليز المستعمرين لأمريكا.

نشأته وبداية حياته العلمية

وُلد واتسون عام 1928 في مدينة شيكاغو، وكان طفلاً شديد الفضول يميل إلى قراءة الكتب العلمية وتتبع الطيور، وهو شغف دفعه لدراسة علم الأحياء في سن مبكرة. ولكن وبعد فترة وجيزة، اكتشف أن شغفه الأساسي ليس بعلم الحيوان، فبدّل وجهته بعدها إلى علم الوراثة والبيولوجيا الجزيئية. 

في مطلع الخمسينيات، انضمّ واتسون إلى مجموعة من الباحثين الشباب في مختبر Cavendish، حيث تعرّف على فرانسيس كريك، الشخصان اللذان ارتبط اسمهما فيما بعد بالحمض النووي.  كان في ذلك الوقت يعرف بعض المعلومات عن الحمض النووي، ولكن لطالما شغل عقل واتسون بنيته وشكله، إذ كان يؤمن بأن الوصول إلى هذه المعلومة هو مفتاح وشيفرة للحياة مستقبلًا. 

ومن خلال أبحاثه مع فريك وباستخدام صور الأشعة السينية التي التقطتها العالِمة روزاليند فرانكلين المختصة بالفيزياء الحيوية، توصلا معًا إلى نموذج اللولب المزدوج للحمض النووي (DNA) عام 1953، ونشروا أول ورقة علمية لهم في مجلة Nature. وتُعد الصور للأشعة السينية التي التقطتها فرانكلين، بما فيها “Photograph 51”، أساسًا لهذا الاكتشاف، وهو ما أثار لاحقًا جدلًا حول مدى الاعتراف بمساهمتها. حيث اتُهم واتسون بالاستفادة من أعمال فرانكلين دون منحها الاعتراف الكامل، كما أدلى بعدة تصريحات اعتُبرت مسيئة للنساء، مشيرًا إلى أن بعض الباحثات “غير مناسبات تمامًا للعلوم العالية”، وأن النساء أقل قدرة على تولي المناصب القيادية، ما أثار انتقادات واسعة.

في رسالة من كريك لابنه — الذي كان يبلغ الثانية عشرة حينها — يحدثه فيها عن هذا الاكتشاف، قال له:

"يبدو أن جيم واتسون وأنا قد توصلنا إلى اكتشاف بالغ الأهمية. لقد بنينا نموذجًا لبنية الحمض النووي (DNA)… إن البنية جميلة جدًا. وبمعنى آخر، نعتقد أننا وجدنا الآلية الأساسية للنسخ التي تُمكّن الحياة من أن تنتقل من حياة أخرى."

فيما بعد، حصل واتسون وكريك مع موريس ويلكنز على جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب عام 1962 عن اكتشافهم، وأصبح اسم واتسون يرتبط عالميًا بالثورة الجزيئية التي شكّلت أساس الطب الحديث، وعلم الجينات، والتشخيص الوراثي. 

ترؤسه لمختبر كولد سبرينغ هاربر

بعد سلسلة من النجاحات العلمية في أوروبا والولايات المتحدة، تولّى جيمس واتسون عام 1968 رئاسة مختبر كولد سبرينغ هاربر (Cold Spring Harbor Laboratory)، أحد أهم المراكز البحثية في العالم في علوم الوراثة والبيولوجيا الجزيئية. شكّل هذا المنصب نقطة تحول مهمة في مسيرته، إذ انتقل من دور الباحث الفردي إلى دور القائد العلمي الذي يوجّه الأبحاث ويؤثر في مستقبل المجال بكامله.

خلال فترة رئاسته، ساهم واتسون في تطوير المختبر ليصبح مركزًا رائدًا عالميًا في أبحاث السرطان والجينات، وحرص على جذب العلماء الشباب ودعم البرامج التدريبية المكثّفة للباحثين. كما شارك لاحقًا في بدايات مشروع الجينوم البشري، وهو المشروع الذي غيّر فهم البشرية للوراثة وفتح آفاقًا جديدة في تشخيص الأمراض.

استقال جيمس واتسون عام 1992 من منصبه كمدير للمركز الوطني لأبحاث الجينوم البشري (NCHGR) بسبب خلافات حول براءات الجينات، مخاوف تضارب المصالح المالية، وتوتر مع إدارة NIH.ورغم استقالته، ساهم لاحقًا في نشر تسلسل  جينومه البشري الشخصي على قاعدة بيانات GenBank، ليصبح متاحًا للباحثين عبر الإنترنت. 



تصريحاته المثيرة للجدل وإبعاده عن المناصب

قد تشعر بلمعة في عينيك وتقدير شديد لرحلة حياة مليئة بالإنجاز لعالم وضع بصمته في هذا المجال، ولكن حياة واتسون كان لها جانب آخر أقل إشراقًا. مع مرور السنوات، بدأت ملامح الجدل تحيط بمسيرته بسبب تصريحاته العلنية المتعلقة بالذكاء والعرق.

فمنذ مطلع الألفينات، أدلى واتسون بعدد من التصريحات التي اعتبرها كثيرون عنصرية، حيث ربط بشكل مباشر بين القدرة العقلية والانتماء العِرقي، وخصوصًا عند حديثه عن المجتمعات ذات الأصول الإفريقية. هذه التصريحات أثارت موجة واسعة من الانتقادات، داخل الأوساط العلمية وخارجها، لأنها جاءت من عالم حائز على نوبل ويشغل منصبًا مؤثرًا في مؤسسة علمية كبرى.

نتيجة لذلك، وجد مختبر كولد سبرينغ هاربر نفسه أمام ضغط اجتماعي وأخلاقي متزايد. وفي عام 2007، أعلن المختبر تعليق ثم سحب العديد من مناصب واتسون الإدارية والشرفية، موضحًا أن تصريحاته “تتعارض مع قيم المؤسسة ومع المبادئ العلمية القائمة على المساواة واحترام الكرامة الإنسانية”. كما قامت جهات علمية أخرى بتقليل ارتباطها الرسمي به، لاسيما بعد تجدد تصريحاته في السنوات اللاحقة بطريقة اعتُبرت تأكيدًا لمواقفه السابقة.

العبقرية قبل أم الأخلاق والإنسانية؟

رحلات العلماء السابقين تظهر أن كلما بحث الإنسان أكثر عن شيفرتنا وفهم الحياة، اقترب أكثر من جوهر الإنسانية. لكن الأمر لم يكن هكذا مع واتسون، مما يوضح أن الأخلاق ليست دائمًا مرتبطة بالإنجازات العلمية.

فهل تغفر رحلة علمية طويلة لشخص نذر حياته لها إذا لم تقرّبه من إنسانيته؟ بل إن بعض الإنجازات قد تزيده غطرسة وبعدًا عن الآخرين. يبقى الجدال حول الأخلاق في العلوم مفتوحًا على أوسع نطاق، ويظل واتسون مثالًا صارخًا على هذا التناقض.

في النهاية، العلوم وُجدت لتعرفنا على أنفسنا وذواتنا وماحولنا وتساعدنا على أن نصبح أفضل. فإن لم تُحقق هذا الهدف الأساسي، فهل يبقى لوجودها معنى؟



احصل على إشعار لكل مقال جديد!

مقالات ذات صلة