
البيئة السورية : الضحية الصامتة
على الرغم من الدمار الصحي والاقتصادي الذي خلّفته الحرب السورية، تبقى البيئة الضحية الغير مرئية لهذا النزاع. فقد تعرضت الأراضي السورية على مدار أكثر من أربعة عشر عامًا لدمار واسع النطاق، نتيجة استخدام قرابة مليون سلاح متفجر، مما أدى إلى تلوث التربة، وتدمير الغابات، وانهيار التنوع البيولوجي.
ورغم جسامة هذه الكارثة البيئية، تظل الدراسات العلمية التي توثق أبعادها الدقيقة نادرة، مما يشكل عقبة أمام وضع استراتيجيات فعالة لمعالجتها. ومع انتصار الثورة السورية، أصبح من الضروري تكثيف الجهود في البحث العلمي والتوثيق البيئي، لما له من أهمية حيوية على صحة الأفراد والاقتصاد الوطني.
في هذا المقال، نستعرض تطور الأضرار البيئية في سوريا منذ اندلاع الحرب، مع التركيز على أبرز المشكلات، مثل تلوث التربة وفقدان التنوع البيولوجي. كما نسلط الضوء على دور التكنولوجيا الحيوية، التي تدمج بين علم الأحياء والتكنولوجيا، في تقديم حلول مستدامة وفعالة لمواجهة التحديات البيئية والصحية، بما في ذلك تدهور التربة.
الآثار البيئية المترتبة على الحرب السورية
بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، لجأ نظام الأسد إلى القمع العنيف بمختلف أشكاله، مستخدمًا الأسلحة الخفيفة والثقيلة، وصولًا إلى الأسلحة الكيميائية، بهدف إخماد الاحتجاجات الشعبية. ووفقًا لتقرير "كارتر للأبحاث" الصادر في نيسان 2022، فقد تم استخدام ما لا يقل عن 972 ألف ذخيرة متفجرة خلال أكثر من 99 ألف نزاع مسلح، ما أسفر عن انتشار واسع للذخائر غير المنفجرة، التي يُقدَّر عددها بأكثر من 300 ألف ذخيرة لا تزال متناثرة في الأراضي السورية، مما يشكل تهديدًا طويل الأمد على البيئة والتربة.
وفي دراسة مسحية أجرتها جامعة الشام في ريف حلب، بدعم من معهد جيمس هوتون (James Hutton Institute) البريطاني، حول "العناصر السامة في تربة شمال غربي سوريا"، كشفت النتائج عن مستويات مرتفعة من النيكل والكروم والكادميوم وأول أكسيد الكربون في التربة الزراعية. وتُعد هذه العناصر شديدة السمية، إذ تلحق ضررًا بالغًا بالبيئة وصحة الإنسان، كما تؤثر بشكل مباشر على خصوبة التربة وجودة المحاصيل الزراعية، مما يهدد الأمن الغذائي في المنطقة.
أثر الحرب على البيئة في سوريا: التربة بين الدمار والتلوث
تدمير التربة بفعل القصف والعمليات العسكرية
أدى الاستخدام المكثف للأسلحة المتفجرة إلى تدمير غير مسبوق للأراضي والموارد الطبيعية. فعند اصطدام الذخائر المتفجرة بالتربة، تتمزق الطبقات العلوية الغنية بالمواد العضوية والمعادن الضرورية للزراعة، مما يفقد التربة قدرتها على دعم الحياة النباتية ويحرمها من عوامل الحماية الطبيعية ضد التصحر والانجراف.
التعرية والتصحر
تتعرض التربة، بعد فقدان غطائها النباتي بسبب القصف، إلى التعرية، حيث تصبح هشّة وسهلة الانجراف تحت تأثير الرياح والأمطار. وقد تجلّت هذه الظاهرة بوضوح في العاصفة الترابية الضخمة التي ضربت سوريا والعراق عام 2015، حيث أرجع الخبراء السبب الرئيسي لها إلى فقدان التربة السورية لطبقاتها السطحية نتيجة الدمار الناجم عن الحرب، ما جعلها مكشوفة ومعرّضة للرياح القوية.
التلوث المعدني والكيميائي
تحتوي القذائف والمتفجرات على معادن ثقيلة ومواد كيميائية سامة، مثل الرصاص والكادميوم والزئبق والنحاس والنتر وجليسرين والتنجستن . تتسرّب هذه المواد إلى التربة، محدثة تلوثًا طويل الأمد يخلّ بتوازن الكائنات الحية الدقيقة، مثل الفطريات والبكتيريا، التي تلعب دورًا أساسيًا في الحفاظ على خصوبة التربة واستدامتها.
التلوث الكيميائي وآثاره البيئية
لم تقتصر تداعيات الحرب البيئية على المتفجرات، بل فاقم استخدام الأسلحة الكيميائية ، مثل غاز السارين والكلور في هجمات على مناطق كالغوطة الشرقية وخان شيخون، الكارثة البيئية. تتفاعل هذه المواد السامة مع التربة، مسبّبة تغيّرات خطيرة في خصائصها الطبيعية، مثل الحموضة وقدرتها على امتصاص المياه، مما يقلل من قابليتها لدعم الحياة النباتية. كما تؤدي هذه السموم إلى قتل الميكروبات المفيدة المسؤولة عن تحليل المواد العضوية، ما يفقد التربة قدرتها على الاحتفاظ بالمغذيات. ولا تقتصر آثار هذه السموم على سطح الأرض، إذ تخترق إلى المياه الجوفية، مما يعرّض الموارد المائية للتلوث ويهدد النظام البيئي والتنوع الحيوي لعقود طويلة.
انحسار الغطاء النباتي وفقدان التنوع البيولوجي
لم تقتصر آثار الحرب على البشر، بل طالت كل أشكال الحياة، حيث تعرضت الغابات، التي كانت تُعرف برئتي سوريا الخضراء، إلى دمار واسع. فقدت البلاد نحو 20.4% من غطائها النباتي بين عامي 2012 و2019، في واحدة من أكبر موجات التدهور البيئي خلال العقود الأخيرة.
تعددت أسباب هذا التدهور البيئي، وكان أبرزها الحرائق المتكررة الناجمة عن العمليات العسكرية أو العوامل المناخية، إضافة إلى القطع الجائر للأشجار، الذي تفاقم مع ضعف قدرة المؤسسات البيئية على فرض الرقابة. كما ساهم التوسع الزراعي العشوائي على حساب الغابات في تراجع مساحاتها الطبيعية، إلى جانب استغلال الأشجار في إنتاج الفحم النباتي، حيث تُفتعل الحرائق عمدًا لاستخراج الفحم وبيعه في الأسواق، مما سرّع من وتيرة الدمار.
علاوة على ذلك، استُخدمت الغابات كدروع طبيعية خلال القصف الجوي والبري، ما جعلها هدفًا مباشرًا للهجمات بالمروحيات والمدفعية، فضلاً عن لجوء النازحين إلى الأشجار كمصدر رئيسي للتدفئة، في ظل انعدام مصادر الطاقة البديلة، مما أدى إلى استنزاف مساحات شاسعة من الغطاء النباتي.
أدى هذا الدمار إلى خسارة أشجار معمرة تعود لعشرات القرون، مثل البلوط والبطم الأطلسي والتوت، إضافة إلى نباتات طبية وعطرية مثل البابونج والزعتر البري واللافندر. كما دُمّرت مساحات شاسعة من مزارع الزيتون، حيث فقدت سوريا ما لا يقل عن 500 ألف شجرة زيتون أثناء الحرب، مما أثر على إنتاج زيت الزيتون، أحد أهم الموارد الاقتصادية للبلاد.
التكنولوجيا الحيوية: أمل أخضر لسوريا.
في ظل الأضرار البيئية التي لحقت بالعديد من المناطق السورية جراء الحرب، تبرز الحاجة الملحّة إلى حلول مبتكرة ومستدامة لمعالجة التلوث وإعادة تأهيل البيئة بفعالية. ومن بين هذه الحلول، تحتل التكنولوجيا الحيوية مكانة بارزة بوصفها إحدى أكثر الوسائل الواعدة في هذا المجال، لما توفره من تقنيات طبيعية وصديقة للبيئة.
تعتمد التكنولوجيا الحيوية على استخدام عوامل بيولوجية مختلفة، مثل الكائنات الدقيقة، نظراً لقدرتها الفريدة على تفكيك الملوثات وتحويلها إلى مواد أقل ضررًا. وتتميز هذه التقنيات بكونها بديلاً مستدامًا للمعالجات الكيميائية التقليدية، مما يعزز الاستدامة البيئية ويقلل من التأثيرات السلبية على النظام البيئي.
حلول التكنولوجيا الحيوية لمكافحة تلوث التربة
1- المعالجة الحيوية (Bioremediation): الكائنات الدقيقة في مواجهة التلوث
تعتمد هذه التقنية على البكتيريا والفطريات في إزالة الملوِّثات من التربة بطريقة طبيعية وفعالة، حيث تقوم هذه الكائنات الدقيقة بتحليل المركبات السامة وتحويلها إلى مواد أقل ضررًا. وهذا يساهم في تحسين جودة التربة وإعادة تأهيل الأراضي الزراعية التي تضررت بفعل الحرب.
2- تثبيت النيتروجين (Nitrogen Fixation): تعزيز خصوبة التربة
تعاني الأراضي الزراعية السورية من تراجع الإنتاجية بسبب تدهور خصوبة التربة. وهنا يأتي دور الكائنات الدقيقة مثل بكتيريا ريزوبيا (Rhizobia)، التي تمتلك قدرة فريدة على تحويل النيتروجين الجوي إلى مركبات نيتروجينية متاحة للنباتات، مما يوفر مصدرًا طبيعيًا للنيتروجين ويزيد من إنتاجية الأراضي الزراعية بطريقة مستدامة.
3- المعالجة النباتية (Phytoremediation): الحل الأخضر لإزالة الملوثات
تعد المعالجة النباتية إحدى الحلول البيئية الواعدة، حيث تستفيد من قدرة بعض النباتات على امتصاص الملوِّثات أو تحييدها دون الحاجة إلى تدخلات كيميائية مكلفة.
في دراسة حديثة أجريت في العراق، تم تلويث التربة عمدًا بالنفط الخام لاختبار قدرة النباتات على تنقيتها. وخلال 120 يومًا، خضعت ثلاثة أنواع من النباتات لهذا التحدي: العشب، القطن، والبرسيم. وأظهرت النتائج تفوق العشب، الذي نجح في إزالة أكثر من 50% من الملوثات، متجاوزًا القطن (49.8%) والبرسيم (31.7%).
هذه الدراسة ليست مجرد تجربة علمية، بل دليل على أن المعالجة النباتية يمكن أن تكون حلاً فعالًا للتربة الملوثة في سوريا، حيث تستطيع بعض النباتات امتصاص الملوثات وتحليلها داخل خلاياها إلى مركبات غير سامة، مما يقلل الحاجة إلى استخدام المواد الكيميائية الضارة.
نحو غدٍ أفضل
إن إعادة إعمار سوريا لا تتمثل في إعادة بناء المدن فقط، بل في إعادة الحياة للأرض نفسها. فالتربة التي تعرضت للدمار خلال سنوات الحرب تحتاج إلى حلول جذرية ليس فقط للحفاظ على البيئة، بل لضمان مستقبل مستدام للأجيال القادمة. وبينما يواجهنا الواقع المؤلم لهذه التحديات، تبرز التكنولوجيا الحيوية كأداة ذات إمكانيات غير محدودة لإحياء ما دمرته الحرب.
في هذا السياق، يتضح أن ما نحتاجه ليس فقط أن ننقذ الأرض من آثار الحروب، بل أن نمنحها الفرصة لتزدهر من جديد، ونعيد توازنها البيئي بطريقة تراعي الأبعاد الاقتصادية والصحية. التقدم في مجال التكنولوجيا الحيوية قد يفتح لنا أبوابًا جديدة، و يمنحنا الأمل في استعادة الأراضي المتضررة وتحويلها إلى بيئات غنية بالعطاء.
هذا التقدم يحتاج إلى إرادة جماعية، و تعاون دولي ومحلي حقيقي، وإلى مواقف جادة من جميع الأطراف. فالأرض لا تتحمل المزيد من التدهور، والمستقبل لن يكون مستدامًا إلا إذا قررنا البدء الآن، بخطوات ملموسة تضمن حقنا في بيئة صحية وآمنة.