التكنولوجيا الحيوية لاستعادة ذهب سوريا: القمح السوري

التكنولوجيا الحيوية لاستعادة ذهب سوريا: القمح السوري

حيوية | June 21, 2025 بواسطة أميرة خليفة

أميرة خليفة
أميرة خليفة
منذ 16 ساعة
مشاركة:
التكنولوجيا الحيوية لاستعادة ذهب سوريا: القمح السوري

في أحد مخيمات الشمال السوري، جلست أم تُقطّع الخبز اليابس إلى قطع أصغر لتطعم أطفالها. حتى  قطع الخبز الصغيرة ، لم تحصل عليه بسهولة. لكن، هل كانت سوريا دائمًا كذلك؟
في هذا المقال، نسلّط الضوء على هذا التحوّل المؤلم: كيف انتقلت سوريا، التي كانت من أوائل دول العالم في إنتاج القمح ومهد زراعته، إلى بلدٍ يُكافح اليوم من أجل تأمين رغيف الخبز; أبسط مقومات الحياة. وكيف مزّق الجفاف وسوء الإدارة والحرب هذا الإرث الزراعي العريق؟ وما دور التكنولوجيا الحيوية والزراعة الذكية في استعادة ذهب سوريا: القمح السوري؟

بداية التحول من الصيد الى الزراعة قبل آلاف السنين - القمح السوري 

قبل آلاف السنين، بدأ الإنسان يلاحظ أن بعض الحبوب تنبت من جديد إذا تُركت في الأرض. شيئًا فشيئًا، بدأ يزرع بدل أن يلتقط، ينتظر بدل أن يلاحق، ويروي الأرض بدل أن يرحل.  هكذا بدأ التحوّل من حياة الصيد وجمع الثمار إلى الزراعة؛ تحوّل غيّر شكل المجتمعات البشرية إلى الأبد. لم تعد الحاجة تدفع الإنسان للتنقّل المستمر، بل أصبح بإمكانه الاستقرار، بناء القرى، وتخزين ما يحصده.

وسوريا، التي تضم أحد أقدم المواقع الزراعية في العالم وهو "تل أبو هريرة" بمحافظة الرقة، كانت من أوائل المناطق التي شهدت تدجين القمح وبداية الزراعة. ومن هذه البقعة ضمن الهلال الخصيب، بدأ القمح رحلته الطويلة نحو بلاد الشام، ثم إلى مصر، فإسبانيا وأوروبا. فكان القمح مفتاح التحوّل، وبداية استقرار، وركيزة أولى في بناء الحضارة.

لا تزال أصناف القمح السوري إلى الآن تحتفظ بأهمية عالمية استثنائية. فقد أثبتت دراسات حديثة أن هذا القمح، المستند إلى إرث جيني فريد، يتمتّع بقدرة عالية على مقاومة الجفاف والآفات. وقد تجلّت هذه القيمة بوضوح حين استعانت مؤسسات بحثية أمريكية ببذور القمح السوري المحفوظة لدى منظمة "إيكاردا"; (وهي مركز أبحاث دولي تأسس في دمشق عام 1977، يُعنى بتطوير الزراعة في البيئات الجافة, قامت في بداية الحرب بنقل نسخًا من بذورها إلى "قبو سفالبارد العالمي للبذور" في النرويج، لحمايتها من الضياع).

إذ في عام 2022، وبسبب تأثيرات الجفاف وتغير المناخ التي هددت محاصيل القمح الأمريكية، حاول الباحثون إيجاد سلالات مقاومة بين آلاف الأنواع المحلية. لكنهم ظلوا عاجزين عن إيجاد حل حتى وجدوا ضالتهم في بذور قمح سوري قديم.

فقد تبين أن هذه البذور كانت الوحيدة التي صمدت أمام الآفات والحشرات في تجارب ميدانية بولاية كنساس الأمريكية، وأظهرت قدرة جينية مميزة على التكيف مع الظروف المناخية المتغيرة ومقاومة الآفات، مما ساهم في إنقاذ المحصول.

ورغم هذا الغنى الزراعي المتجذّر، فإن تحوّلات مناخية وسياسية عميقة غيّرت ملامح المشهد الزراعي في سوريا. حيث تحوّل مزارع الحسكة، الذي ورث أرضه ومهنته عن أجداده، من زارعٍ للوفرة و حارسٍ لمحاصيل تعود لآلاف السنين إلى شاهد على مواسم الجفاف و استيراد للقمح من مواطن أخرى.

لنفهم الصورة بعمق، دعونا نعود بالزمن قليلا إلى الوراء..

القمح السوري عبر الزمن: من  الاكتفاء الذاتي إلى الجوع

بدأت القصة في عام 2006، حين تعرّضت سوريا لأسوأ موجة جفاف منذ عقود. في المحافظات الشرقية والشمالية، حيث يُزرع معظم القمح السوري، جفّت التربة، وتراجعت المحاصيل، وبدأ الفلاحون يشعرون بأن المواسم لم تعد كما كانت.

خلال أربع سنوات متتالية من الجفاف، خاصة في الحسكة ودير الزور والرقة، فشلت الزراعة البعلية في تأمين الحد الأدنى من الإنتاج. آلاف العائلات الريفية هجرت قراها، وانتقلت إلى أطراف المدن بحثًا عن مصدر رزق، في واحدة من أولى الهجرات المناخية داخل البلاد.

لكن الأزمة لم تكن فقط مناخية. فبحسب تقارير الأمم المتحدة، عانت سياسات الدولة حينها من قلة المرونة، وغياب استراتيجيات بديلة لتخزين المياه، أو دعم الفلاحين المتضررين.
كان إنتاج القمح قد تجاوز 4 ملايين طن سنويًا في التسعينيات، وهو رقم كافٍ لتغطية حاجة السكان، بل ويُصدَّر الفائض أحيانًا. لكن بعد عام 2008، بدأ هذا الرقم يتراجع بشكل مستمر. ثم جاءت الحرب في 2011، فأكملت ما بدأه الجفاف. المساحات الزراعية تقلّصت، وشبكات الريّ تضررت، والسدود خرجت عن الخدمة أو وقعت تحت سيطرة جماعات مختلفة. 

ومع تهجير مئات آلاف الفلاحين، وتفكك المؤسسات الزراعية، وانهيار منظومات الدعم والإرشاد، فقدت سوريا قدرتها على إنتاج ما يكفي من القمح.  في عام 2023، لم يتجاوز الإنتاج 1.2 مليون طن، وهو ما يعادل أقل من ربع حاجة البلاد الفعلية.

باتت سوريا تعتمد  بشكل متزايد على الاستيراد لتغطية العجز في إنتاج القمح. وهكذا، تحوّلت سوريا من بلدٍ كان يزرع ليحقق الاكتفاء الذاتي و يُصدّر، إلى بلدٍ يستورد ليأكل.

تطور إنتاج وتصدير القمح في سوريا (1998–2024)، بحسب بيانات FAO وUSDA.

الحلول البيوتكنولوجية: طريق جديد للقمح السوري

يبدأ تعافي الزراعة في سوريا، وخاصة زراعة القمح، عندما نبتعد عن الحلول التقليدية ونتجه نحو أدوات حديثة تُوظف الموارد المتاحة بذكاء. فالاعتماد على التكنولوجيا لم يعد خيارًا ثانويًا، بل ضرورة لزراعة تتكيّف مع الواقع الجديد وتستفيد من إمكانيات البلاد بشكل فعّال. ومن بين أبرز هذه الأدوات: التقنيات البيوتكنولوجية وأساليب الزراعة الذكية، التي أثبتت نجاحها في بلدان ذات ظروف مشابهة. نستعرض فيما يلي أبرز هذه الحلول:

استنباط أصناف مقاومة للجفاف والملوحة.

يُعدّ تطوير أصناف قمح قادرة على تحمّل الجفاف والملوحة من أهم مقاربات الزراعة الحديثة في مواجهة تغيّر المناخ. تعتمد هذه التقنية على اختيار سلالات محلية أو أجنبية ذات قدرة عالية على التحمّل، وتحسينها عبر التهجين المدروس أو التعديل الوراثي، ثم اختبار أدائها في ظروف طبيعية قاسية.

طوّر المعهد الوطني للبحث الزراعي في المغرب (INRA) بالتعاون مع إيكاردا صنفًا جديدًا من القمح الصلب أُطلق عليه اسم "جواهر". تم اختبار هذا الصنف في أكثر من 30 حقلًا تجريبيًا موزعة على مناطق شديدة الجفاف في سوس وتادلة ومراكش، بمشاركة أكثر من 200 مزارع. وأظهرت التجارب أن "جواهر" تفوّق على الأصناف التقليدية في الظروف القاسية، إذ بلغ متوسط إنتاجه أكثر من 1.5 طن للهكتار الواحد في سنوات الجفاف، مقارنةً بـ 1 طن/هكتار كحد أقصى للأصناف غير المحسّنة.

تطبيق التعديل الجيني (CRISPR) 

تقنية CRISPR-Cas9 تُعد من أحدث أدوات البيوتكنولوجيا، وتتيح تحرير الجينوم النباتي بدقة، عبر تعديل أو تعطيل جينات مسؤولة عن ضعف الإنتاج أو حساسية النبات للجفاف والملوحة.  وتمتاز بالسرعة مقارنة بالتهجين التقليدي، إذ يمكن من خلالها إنتاج سلالات محسّنة خلال وقت قصير.

 ورغم أن هذه التقنية تتطلب مختبرات متقدمة، إلا أن سوريا قادرة على الاستفادة منها عبر التعاون مع مراكز بحثية دولية أو برامج نقل المعرفة، خصوصًا في المناطق المتأثرة من تغيّر المناخ مثل الرقة والحسكة.

التلقيح الحيوي و الميكروبات النافعة.

تقوم تقنية التلقيح الحيوي على فكرة بسيطة لكنها فعالة: تُضاف أنواع من البكتيريا النافعة إلى بذور القمح أو التربة، فتبدأ هذه الكائنات الدقيقة بالتفاعل مع جذور النبات حيث تساهم في تعزيز نموّه وتحسين مقاومته للظروف القاسية. من بين أشهر هذه البكتيريا Azospirillum brasilense، التي تستطيع التقاط النيتروجين من الهواء وتحويله إلى غذاء متاح للجذور. كما تساعد في إذابة الفوسفور من التربة، وتحفّز نمو الجذور من خلال إفراز هرمونات طبيعية، مما يجعل القمح أكثر قدرة على امتصاص العناصر الغذائية والماء، وحتى مقاومة الجفاف والملوحة.

في العالم العربي، أجريت تجارب ميدانية في العراق باستخدام خليط من البكتيريا النافعة مع 25% فقط من الأسمدة الكيماوية في أراضٍ متأثرة بالملوحة. وأسفرت النتائج عن زيادة ملحوظة في عدد السنابل، و وزن حبة القمح، وإجمالي الإنتاج مقارنةً بالأراضي التي لم تُستخدم فيها البكتيريا النافعة، مما يؤكد قدرة هذه التقنية على دعم القمح في ظروف زراعية صعبة كالتي تعاني منها بعض المناطق السورية اليوم.

الزراعة الدقيقة (Precision Agriculture)

الزراعة الدقيقة هي أسلوب يعتمد على دمج التكنولوجيا في كل خطوة من خطوات الزراعة، من تحضير التربة وحتى الحصاد. تستخدم هذه الأنظمة تقنيات مثل الطائرات المسيّرة (الدرون) لرصد حالة المحاصيل، وأجهزة الاستشعار لرصد رطوبة التربة أو احتياجات النبات، بالإضافة إلى أنظمة ريّ ذكية تُحدّد كميات المياه بناءً على الحاجة الفعلية.  

الزراعة الذكية مناخيًا

تعد الزراعة الدقيقة جزء من منظومة أوسع تُعرف باسم الزراعة الذكية مناخيًا. هذا المفهوم يتجاوز الأدوات التقنية ليشمل إعادة تصميم النظام الزراعي ككل ليكون أكثر قدرة على التكيّف مع تغير المناخ. الزراعة الذكية مناخيًا تقوم على ثلاثة أهداف مترابطة:

  1. زيادة الإنتاج الزراعي بشكل مستدام.
  2. تعزيز قدرة الزراعة على مقاومة الجفاف والتقلبات المناخية.
  3. تقليل الانبعاثات الضارة أو تعزيز امتصاص الكربون من التربة والنبات.

هذه المنهجية قد تشمل استخدام أصناف قمح مقاومة للجفاف، أو تعديل أوقات الزراعة، أو تغيير أساليب الحراثة للحفاظ على رطوبة التربة، إلى جانب تبنّي أدوات الزراعة الدقيقة مثل الحساسات والدرون.

خاتمة: بين الماضي والمستقبل | هل يعود ذهب سوريا الأصفر؟

سُمّي القمح السوري بـ"ذهب سوريا الأصفر" لما شكّله من ثقل اقتصادي ورمز حضاري على مرّ العصور. فكان  عنوانًا للاكتفاء والاستقرار, لكنه، خلال سنوات الحرب والجفاف والتدهور المؤسسي، تحول من صنف تُصدّره سوريا إلى العالم، إلى سلعة تُستورد لإطعام من كانوا يزرعونه.

رحلة القمح السوري الطويلة لا تحمل فقط مآسي التراجع، بل دروسًا ثمينة تقول إن الاعتماد على الطبيعة وحدها لا يكفي، وأن البذور مهما كانت أصيلة تحتاج إلى علم ورعاية وبيئة سياسية واقتصادية حاضنة.

واسترداده ليس حلمًا بعيدًا، بل مشروع قابل للتحقيق، إذا ما توفّرت الإرادة السياسية، وتكاملت جهود تثقيف المزارعين، والاستثمار العلمي، وبُنيت شراكات تؤمن بأن الأمن الغذائي في الشرق الأوسط يبدأ من سنبلة تُزهر من جديد في أرض الفرات.



احصل على إشعار لكل مقال جديد!