الشمندر السكري.. خطوة نحو اقتصاد دائري وزراعة مستدامة
حيوية | October 26, 2025
•
بواسطة نور العوض
نور العوض
منذ 5 أيام
مشاركة:
لطالما كان الشمندر السكري (Beta vulgaris L.) أحد المحاصيل الزراعية الاستراتيجية في سوريا، ورافدًا رئيسيًا لصناعة السكر الوطنية.
قبل عام 2014، كانت سوريا من بين الدول العربية القليلة التي تعتمد بشكل كبير على إنتاجها المحلي من السكر إضافة إلى تصديره، إذ ساهمت مساحات واسعة مزروعة بالشمندر في تأمين احتياجات المصانع وتشغيل آلاف العمال والفنيين، ناهيك عن دعم الاقتصاد الريفي ورفع دخل الفلاحين في مناطق الإنتاج الرئيسة مثل حمص، حماه، حلب والرقة.
ومع سنوات الحرب، تراجع الإنتاج بشكل كبير نتيجة تضرر الأراضي ومصانع التكرير وشبكات النقل، ما زاد من الاعتماد على الاستيراد وأضعف قطاعًا حيويًا ظل لعقود جزءًا من الأمن الغذائي للبلاد. في حين أنه ازداد الطلب عليه عالميا وارتفع انتاجه عالميا، حيث عملت الكثير من الدول على تطوير المحصول ودراسته بشكل أكبر فقيمة الشمندر السكري لا تكمن فقط في إنتاج السكر.
فاليوم، من المحتمل النظر إلى هذا المحصول كأداة مهمة في تحقيق الزراعة المستدامة وتطبيق مبادئ الاقتصاد الدائري، إذ يُمكن الاستفادة من جميع أجزائه تقريبًا، وتحويل ما كان يُعتبر يومًا "مخلفات زراعية" إلى مواد عضوية تحسّن خصوبة التربة وتغلق حلقة الإنتاج.إنتاج السكر في الجمهورية العربية السورية حسب السنة، وحدة القياس 1000 طن متري.إن نموذج الاقتصاد الدائري يعتمد على فكرة بسيطة وفعالة: لا شيء يتحول إلى نفايات بلا قيمة، بل تُعاد تدوير المخرجات الثانوية لتكون مدخلات جديدة تدعم النظام البيئي والإنتاجي معًا.
في حالة بنجر السكر، نجد أن بقايا الأوراق والسيقان ولب البنجر الناتج عن عصر العصير تُستخدم كلها بطرق مختلفة. يمكن تجفيف هذه البقايا وتحويلها إلى علف حيواني غني بالطاقة، أو تخميرها لإنتاج الغاز الحيوي، أو معالجتها كسماد عضوي (كومبوست) يعاد إلى التربة، فيساهم في تجديد محتواها العضوي وزيادة خصوبتها.
مخلفات البنجر فرص ضائعة:
يُنتج كل طن من البنجر حوالي 300–350 كغ من المخلفات العضوية، تتوزع بين أوراق خضراء، سيقان، بقايا لُبّ مستخلص (Pulp) وألياف. هذه البقايا غنية بـ:
الكربون العضوي (C) الضروري لتحسين بنية التربة.
نسب معتبرة من النيتروجين (N)، قد تصل إلى 2–2.5% من الوزن الجاف.
عناصر دقيقة مثل البوتاسيوم (K) والكالسيوم (Ca) والفوسفور (P)، ما يجعلها مادة ممتازة لإنتاج سماد عضوي متوازن.
ألياف سليلوزية قابلة للتحلل بفعل الكائنات الدقيقة الهوائية.
بالتالي تُظهر مخلفات البنجر قدرة عالية على إنتاج سماد عضوي غني بالنيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم، مع قدرة ممتازة على تحسين التربة الرملية والجافة. يمكن استخدام أوراق البنجر والسيقان في تصنيع الكومبوست، كما يمكن خلط اللب الليفي المتبقي من عملية التكرير مع بقايا محاصيل أخرى لصنع خليط سماد حيوي متوازن، هذا يقلل الحاجة إلى الأسمدة الكيماوية ويقلل التلوث الناتج عنها.
الشمندر السكري في دورة إنتاج صفرية الهدركيف يدعم الشمندر خصوبة التربة؟
يُعد الشمندر السكري محصولًا ذا جذور عميقة نسبياً، وهذه الخاصية تمنحه دورًا إضافيًا في تحسين التربة. فعندما تنمو الجذور بعمق، فإنها تعمل على تفكيك الطبقات السفلية للتربة، مما يحسن التهوية ويُسهّل امتصاص المياه ويزيد قدرة التربة على تخزين المغذيات. وهذا يهيئ بيئة أفضل للمحاصيل اللاحقة ضمن الدورة الزراعية.
أضف إلى ذلك أن زراعة البنجر مع محاصيل أخرى مثل الحبوب والبقوليات ضمن دورة زراعية مدروسة، يسهم في كسر دورة الآفات والأمراض ويقلل من استنزاف العناصر الغذائية.
من المخلفات إلى كومبوست: دورة حياة متجددة
من أهم الفوائد التي يجلبها الشمندر السكري هي الكتلة الحيوية الناتجة بعد العصر. بعد عصر بنجر السكر، ينتج نوعان من المخلفات: الأول هو الكتلة الليفية (مثل الأوراق والسيقان والألياف المتبقية) التي يمكن تحويلها إلى كومبوست عضوي، والثاني هو المولاس، وهو سائل غني بالسكريات والأملاح، يستخدم كعلف مركز أو مادة صناعية لإنتاج الإيثانول أو الخميرة.
هذه المخلفات، التي كانت تُعتبر سابقًا عبئًا على المصانع، باتت اليوم أساسًا لصناعة الأسمدة العضوية. عند تحويل بقايا البنجر إلى كومبوست، تتحلل المركبات العضوية المعقدة ببطء، فتُطلق المغذيات تدريجيًا وتُغذي التربة لفترات طويلة دون الحاجة للإضافة المستمرة للأسمدة الكيماوية. كما تزيد هذه العملية من قدرة التربة على الاحتفاظ بالماء، وتحسن بنية الحبيبات، وتخلق بيئة نشطة حيويًا للكائنات الدقيقة المفيدة مثل البكتيريا المثبتة للنيتروجين والفطريات التكافلية (الميكورايزا).
تشير دراسات حديثة إلى أن استخدام الكومبوست الناتج من مخلفات بنجر السكر يُحسّن خصوبة التربة وجودتها على المدى الطويل، ويقلل من الانجراف ويحد من التلوث الناتج عن التسميد المفرط بالمواد الكيماوية. وقد ثبت أيضًا أن بقايا البنجر غنية بالمغذيات الأساسية مثل البوتاسيوم والفوسفور والمواد العضوية المعقدة، ما يجعلها مثالية لزراعة محاصيل الحبوب والخضروات في الدورات اللاحقة.
الاقتصاد الدائري: فرصة سوريا للنهوض من جديد
إن إعادة إحياء زراعة الشمندر السكري في سوريا قد تكون فرصة لإحياء سلسلة إنتاج متكاملة: من الحقل إلى المصنع إلى التربة من جديد. يمكن تصور دورة إنتاجية حيث يزرع الفلاحون البنجر ويوفرونه للمصانع، وتعيد المصانع تدوير المخلفات إلى علف وكومبوست وغاز حيوي، ليُعاد استخدام السماد الناتج في الأراضي نفسها، وهكذا تستمر الحلقة دون هدر.
هذا النموذج يمكن أن يقلل من الفاتورة الاستيرادية للأسمدة والوقود وحتى العلف الحيواني. كما يُعزز الأمن الغذائي من خلال تأمين السكر محليًا، ويدعم المجتمعات الريفية بفرص عمل جديدة في إدارة المخلفات وتدويرها. والأهم أنه يحقق مبدأ الاستدامة الذي تتطلبه المرحلة المقبلة لإعادة إعمار ما تهدمه الأزمات المتتالية.
ويُعد تحديث مصانع السكر وإضافة وحدات حديثة لمعالجة المخلفات ضرورة قصوى لتحقيق دورة الاقتصاد الدائري على أرض الواقع. كما أن الاستثمار في البحث العلمي لتطوير أساليب التدوير وتصنيع السماد الحيوي، وإطلاق برامج توعية للمزارعين حول فوائد إدارة المخلفات، خطوات عملية يمكن أن تُعيد لهذا المحصول الاستراتيجي مكانته القديمة ودوره الجديد كرمز للزراعة المستدامة.