
عند تسلسل الحمض النووي، تكون النـتائـج سلاسل طويلة مكوّنة من أربعة حروف كيميائية (A، T، C، G) تتكرر بلا نهـاية. هذه الحروف تمثل القواعد النيتروجينية (الأدينين، الثايمين، السيتوزين، الجوانين)، وهي الأساس في الشيفرة الجينية لكل كائن حي .
هذه السلاسل مكتوبة بلغة لا نعرف قراءتها، ولولا ترجمة رموزها لبقيت الجينات ووظائفها لغزًا غامضًا.
فكيف يتمكّن العلماء من تحويل هذه الألغاز إلى معرفة يمكننا الاستفادة منها؟
هناك أساليب عديدة يستخدمها العلماء، من بينها:
حذف جين معيّن: يتم تعديل جينوم الكائن لإزالة جين محدد، ثم يوضع الكائن تحت المراقبة لمعرفة أي من وظائفه أو سلوكياته تتأثر بغياب هذا الجين.
زيادة نشاط الجين: يُحفَّز الجين ليُفرط في التعبير عنه، مما يؤدي إلى إنتاج كميات أكبر من البروتين الذي يشفره، وبذلك يمكن استنتاج وظيفته من تأثير الزيادة.
ما معنى أن تكون للجينات "وظيفة"؟
في عملية تُعرف باسم التعبير الجيني (Gene Expression)، تنسخ الخلية جينًا معيّنًا لإنتاج بروتين يقوم بدور محدد.
خلال هذه العملية، تُنتج الخلية الـ mRNA، وهي نسخة مؤقتة من الجين تحمل تعليمات تصنيع البروتين. ثم تُترجم هذه التعليمات داخل الرايبوسومات إلى سلسلة من الأحماض الأمينية، لتكوين البروتين.
قد يكون هذا البروتين:
- إنزيما يسرّع التفاعلات الكيميائية الحيوية.
- مكوّنًا بنائيًا يمنح الخلية شكلها ودعامة هيكلية.
- عاملًا منظمًا يتحكم في نشاط جينات أخرى .
وبالتالي، يمكن استنتاج وظيفة الجين من طبيعة البروتين الناتج عنه.
من المخبَر إلى أدوات التحليل المتقدمة
فنَفهم أن هناك ثلاثة عناصر أساسية في هذه القصة: الجين، والـ mRNA، والبروتين.
وللتعمق أكثر، يستخدم العلماء تقنيات متقدمة، مثل:
- تسلسل الحمض النووي الريبي (RNA-seq): لقراءة جميع جزيئات الـ mRNA في الخلية، ومعرفة الجينات النشطة والظروف التي تنشط فيها .
- تحليل تفاعلات البروتين-بروتين (Protein–Protein Interactions): لدراسة البروتينات التي يتفاعل معها بروتين الجين، إذ يمكن أن تكشف شركاؤه عن وظيفته.
الصورة الكاملة ليست خطًا مستقيمًا، بل هي شبكة معقدة من المسارات والتأثيرات المتبادلة. لذلك يقوم العلماء برسم خرائط للتفاعلات بين الجينات والبروتينات، ثم تحليلها لفهم كيفية تنظيم العمليات الحيوية داخل الكائن الحي.
وعبر آلاف التجارب، تم إنشاء قواعد بيانات ومكتبات ضخمة تضم معلومات عن تسلسل الحمض النووي، ووظائف الجينات، والبروتينات المرتبطة بها. وهنا تأتي المعلوماتية الحيوية (Bioinformatics)، حيث تُستخدم الخوارزميات لمقارنة البيانات الجديدة بهذه القواعد والمكتبات، مما يتيح التنبؤ بوظائف جينات لم تُدرس من قبل، والكشف عن روابط جديدة بين الجينات والبروتينات .
على سبيل المثال، قام العلماء عند ظهور فيروس الكورونا (SARS-CoV-2) لأول مرة بمقارنة تسلسل جيناته مع قواعد بيانات جينوم فيروسات كورونا سابقة. هذه المقارنة السريعة كشفت أن بروتين "سبايك" (Spike protein) يشبه بروتينات موجودة في فيروسات أخرى وتُستخدم لدخول الخلية، مما ساعد على توجيه الأبحاث نحو تطوير اللقاحات.