
مع انتشار استخدام الذكاء الاصطناعي في مختلف مجالات الحياة، بدأ كثيرون يتساءلون: هل تستبدل الآلات البشر؟ فقد بدأت بعض المهن بالفعل تفقد "اللمسة البشرية"، لتحل محلها الخوارزميات والأنظمة الذكية شيئًا فشيئًا. لكن إلى أي مدى يمكن أن يتغلغل الذكاء الاصطناعي في تفاصيل حياتنا؟ وهل يمكن أن يصل إلى حدّ معالجة إنسان مريض؟
تخيّل هذا المشهد: تدخل إلى المستشفى، وأول من يستقبلك ليس طبيبًا، بل شاشة... خوارزمية تحلّل حالتك وتُشخّص مرضك خلال ثوانٍ.
وفي الحقيقة، حدث شيءٌ مشابهٌ؛ حيثُ عانى طفلٌ صغيرٌ من أعراضٍ غامضة، زار خلالها 17 طبيبًا دون جدوى. وفي لحظةِ يأس، لجأت والدته إلى تطبيق ذكاء اصطناعي، فأعطاها خلال ثوانٍ تشخيصًا لمرضٍ نادر. وبعد فحصٍ طبيٍّ متخصص، تبيّن أن الذكاء الاصطناعي كان على حق.
في هذا المقال، نُلقي نظرة واقعية على كيفية مساهمة الذكاء الاصطناعي في تغيير شكل الرعاية الصحية اليوم، من خلال فهم آلية عمله، واستكشاف استخداماته الحالية، إضافةً إلى مناقشة تحدياته الأخلاقية، وذلك في محاولة للإجابة على السؤال المحوري: هل سيحل الذكاء الاصطناعي مكان الأطباء؟
لماذا نحتاج الذكاء الاصطناعي في الواقع الطبي؟
الذكاء الاصطناعي ببساطة مجموعة من الخوارزميات والأنظمة الرياضية، تكتسب معلوماتها حصريًا من البيانات المزوَّدة لها من مصادر خارجية. هو لا يملك وعيًا ذاتيًا أو تفكيرًا مستقلاً، بل "يصنع" معرفته من خلال تحليل ملايين البيانات، التي قد تتكوّن من صور، أرقام، أو نصوص.
ومن خلال هذا التحليل، يستطيع الذكاء الاصطناعي ملاحظة أنماط متكررة، وعلاقات خفية قد لا تكون واضحة للبشر. ويتميز عن الإنسان بقدرته على معالجة كميات هائلة من البيانات في وقت قصير جداً، والعمل بدقة وثبات دون أن يتأثر بالتعب أو العوامل النفسية. كما يمكنه التعلّم من مئات الآلاف من الحالات دفعة واحدة، مما يمنحه قدرة تحليلية تتفوّق أحيانًا على الأداء البشري في المهام المتخصصة والدقيقة.
ويُعد التعلّم العميق (Deep Learning) أحد أكثر أشكال الذكاء الاصطناعي تقدمًا، خاصة في التطبيقات الطبية. يعتمد هذا النموذج على "الشبكات العصبية الاصطناعية"، وهي أنظمة رقمية تُحاكي طريقة عمل الدماغ البشري. فلا يعتمد على قواعد أو تعليمات مسبقة، بل يتعلّم مباشرة من البيانات. وكلما زادت كمية البيانات المُدخلة إليه، تحسّنت دقته.
تُصبح هذه القدرات أكثر أهمية في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه أنظمة الرعاية الصحية حول العالم. فبحسب منظمة الصحة العالمية، يُتوقّع أن يشهد العالم نقصًا بنحو 11 مليون عامل صحي بحلول عام 2030. بالإضافة إلى ذلك، فإن تزايُد عدد المرضى، وارتفاع معدلات الأمراض المزمنة يؤدي إلى تضخم كمية البيانات الطبية وصعوبة الوصول إلى تشخيص دقيق وسريع. ومن هنا، يُصبح الذكاء الاصطناعي أداة ضرورية لدعم التشخيص، وتحسين جودة الرعاية، وتقديم طب شخصي ووقائي أكثر دقة وكفاءة.
ما الذي يستطيع الطبيب الاصطناعي فعله؟
أصبح وجود الذكاء الاصطناعي واقعًا في العديد من المستشفيات حول العالم. فبعيدًا عن المخاوف الغير واقعية حول استبدال الأطباء، تُشير الأرقام والتجارب الحقيقية إلى مساعدة الذكاء الاصطناعي للأطباء، من تسريع التشخيص وتحسين دقته، التنبؤ المبكر بالمضاعفات، إلى تولّي المهام الإدارية الروتينية بشكل آلي يوفّر وقت وجهد الكوادر الطبية.
تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي اليوم في تحليل الصور الطبية مثل الأشعة السينية والرنين المغناطيسي والتصوير المقطعي، ما يساعد الأطباء في تشخيص الأمراض بشكل أكثر دقة وسرعة. على سبيل المثال، طوّرت شركة PathAI نظامًا ذكيًـا يُستخدم في مختبرات الباثولوجي لتحليل شرائح الأنسجة وحصر عدد الخلايا السرطانية، وتقدير مدى انتشار الورم، بل وحتى تصنيف نوع السرطان، في مهمة كانت تستغرق من الأطباء ساعات من العمل المرهق.

أما في الطب الوقائي والشخصي، فيُستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات الجينوم، والسجلات الصحية الإلكترونية، ونمط الحياة، لتقدير مخاطر الإصابة بأمراض مزمنة مثل السكري وأمراض القلب، بالإضافة إلى تخصيص خطط العلاج بناءً على جينات المريض.
كما يتقدّم الذكاء الاصطناعي بسرعة ليُصبح نظام إنذار مبكر حقيقي داخل المستشفيات. فبفضل قدرته على مراقبة المؤشرات الحيوية لحظة بلحظة، أصبح بإمكانه التنبؤ بمضاعفات صحية خطيرة قبل أن تظهر أعراضها فعليًا. في دراسة حديثة، طوّر باحثون نموذج قادر على التنبؤ باحتمال حدوث السكتة القلبية المفاجئة قبل وقوعها بعدة أيام، من خلال تحليل الإشارات الكهربائية القلبية (ECG). ويُتوقع أن يُستخدم هذا النموذج مستقبلًا في وحدات العناية المركزة لمراقبة الحالات الغير المستقرة وتنبيه الطواقم الطبية مسبقاً.
تمتد تطبيقات الذكاء الاصطناعي لتشمل تحسين إدارة المستشفيات. تُطبَّق تقنياته اليوم لأداء مهام متعددة بشكل تلقائي مثل جدولة المواعيد، وتنظيم ملفات المرضى، وتحويل النصوص الصوتية إلى تقارير مكتوبة. فقد أظهرت تجربة في مستشفى جونز هوبكنز أن دمج الذكاء الاصطناعي في تنظيم حركة المرضى ساعد في خفض أوقات انتظار غرف الطوارئ بنسبة 30%، من خلال تحليل أنماط البيانات التاريخية للتنبؤ بأعداد المرضى وتحسين كفاءة الكادر الطبي.
كل هذه التطبيقات تُظهر أن الذكاء الاصطناعي لا يسعى لاستبدال الأطباء، بل لتعزيز قدراتهم وتمكينهم من تقديم رعاية أكثر دقة وسرعة وفعالية للمرضى.
تحديات ومخاوف أخلاقية: عندما يخطئ الذكاء
رغم الفوائد الكبيرة التي يقدّمها الذكاء الاصطناعي في المجال الطبي، إلا أن استخدامه يحمل معه مجموعة من التحديات والمخاوف الأخلاقية التي تستحق النقاش. أول هذه المخاوف يتمثل في سؤال جوهري: من يتحمّل المسؤولية عندما يُخطئ النظام؟ فالأطباء البشر يخضعون لمحاسبة قانونية وأخلاقية واضحة، لكن ماذا عن الذكاء الاصطناعي؟ هل يمكن أن نحمّل المسؤولية لبرنامج أو خوارزمية؟ أم أن المسؤولية ستقع على الشركة المطوّرة أو الطبيب الذي يستخدم هذه التقنية؟ تُضاف إلى ذلك مخاوف متزايدة بشأن خصوصية بيانات المرضى، إذ تُستخدم هذه البيانات لتدريب النماذج وتحسين دقتها، لكن هل يمكن ضمان عدم إساءة استخدامها أو بيعها لطرف ثالث؟
من ناحية أخرى، يُطرح سؤالٌ هام حول انحياز الخوارزميات. فأنظمة الذكاء الاصطناعي تتعلم من البيانات التي تُزوَّد بها، مما يجعلها عرضة للانحياز إذا كانت تلك البيانات غير متوازنة أو تفتقر إلى التنوّع. كما أن دقتها تعتمد ليس فقط على كمية البيانات، بل على جودتها، وطريقة برمجتها، ومن يشرف على تدريبها. فإذا كانت البيانات مُقتصرة على فئة معينة، من حيث العِرق، أو الجنس، فإن النظام قد يُصدر نتائج غير دقيقة أو غير عادلة لفئات أخرى.
ورغم هذه التحديات، فإن العديد من المؤسسات بدأت بوضع معايير واضحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الطب، تركز على الشفافية، وحماية الخصوصية، وخضوع النظام دائمًا لإشراف بشري. في النهاية، يظل الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة قوية، لكنه لا يمكن أن يحل محل الأطباء تمامًا، والتحدي الحقيقي لا يكمن في استبعاده أو الاعتماد الكامل عليه، بل في كيفية استخدامه بشكل مسؤول ومتوازن.
مستقبل الذكاء الاصطناعي في العالم الطبي
تشير التقديرات إلى أن سوق الذكاء الاصطناعي في قطاع الرعاية الصحية سيصل إلى أكثر من 187 مليار دولار بحلول عام 2030. ويأتي هذا النمو نتيجة الاعتماد المتزايد على الأنظمة الذكية لتحسين كفاءة المستشفيات، تقليل التكاليف، وتسريع التشخيص والعلاج بدقة أعلى.
ورغم هذا التقدّم الهائل، يمكننا أن نُجيب على سؤال هذا المقال بـ"لا".
فالذكاء الاصطناعي قادر على تحليل البيانات، وتقديم الاحتمالات، وتسريع العمليات الطبية، لكنه لا يستطيع اتخاذ القرار الطبي النهائي ولا تحمل مسؤوليته. فجميع تطبيقاته ما تزال تحت إشراف الطبيب، ولا يُعتمد عليها بشكل مستقل في اتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بحياة البشر. إضافةً إلى ذلك، فإن جزءًا كبيرًا من علاج الإنسان يرتكز على العوامل النفسية، وعلى العلاقة الإنسانية بين الطبيب والمريض، المبنية على الثقة، والقدرة على الطمأنة، والتفاعل العاطفي. فالإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، يحتاج إلى من يُحسّ به، لا إلى من يُحلّله فقط.
في النهاية، لا يكمن السؤال الحقيقي في ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيستبدل الأطباء، بل في كيفية إعداد الأطباء للعمل جنبًا إلى جنب مع هذه التقنية المتقدمة. فالطبيب في المستقبل سيكون مدعومًا بالخوارزميات والتعلّم العميق، لكن "اللمسة البشرية" ستظل جوهر المهنة.