
يفتح الرضيع عينيه على الحياة بين ذراعي أمه، حيث تحتضنه للمرة الأولى، لتمنحه ما عجز الأدباء عن وصفه: مشاعر الأمومة. هذه المشاعر الغامرة التي تختزل تحتها الكثير من المعاني، هي بوابة التعرف على الحياة، سواء عند البشر أو الحيوانات.
من داخل هذه الأذرع الدافئة نبدأ أولى خطواتنا، وهي بالنسبة لنا دليل وخريطة للحياة، على الأقل في السنوات العشر الأولى. في هذه الفترة يبدأ الطفل في التشكل والتبلور، جسديًا ونفسيًا وعاطفيًا.
تشير الدراسات إلى أن سعداء الحظ بحق هم أولئك الذين ينعمون بالرعاية الأبوية الكاملة في بداية حياتهم، أي من الولادة حتى نحو 6 أشهر، وهي فترة يُعدّ التواصل العاطفي الحقيقي والاهتمام المستمر من الأبوين فيها أمرًا جوهريًا. هذه الرعاية تترك أثرًا كبيرًا على طريقة نمو الدماغ العصبية، بحيث تؤثر لاحقًا على الطفل من الناحية السلوكية والعاطفية والمعرفية.
في دراسة أُجريت على قردة المرموس، قام العلماء بتقسيم الرضّع حديثي الولادة إلى مجموعتين:
- المجموعة الأولى بقيت بجانب أمهاتها.
- المجموعة الثانية عُزلت عن أمهاتها وربّيت يدويًا من قبل البشر دون تواصل أمومي.
لاحقًا، أخذ الباحثون عينات من منطقة الحُصين (Hippocampus) في الدماغ، وهي منطقة شديدة الحساسية، مسؤولة عن التعلم، الذاكرة، وتنظيم المشاعر. قاموا بتحليل التعبير الجيني، أي نشاط الجينات وإنتاجها للبروتينات التي تتحكم في عمل الخلايا العصبية.
تمت التحليلات في اوقات زمنية مختلفة بداية في سن الشباب اي (13–19 شهرًا), ولاحقا في سن الشيخوخة اي بعمر (88–164 شهرًا) وتكمن أهمية التحليل في فترتين زمنيات مختلفة لمعرفة ما إذا كانت التأثيرات مؤقتة أم دائمة.
أظهرت النتائج أن الحرمان من الأم في الأسابيع الأولى من الحياة أدى إلى تغيّر نشاط مئات الجينات، بعضها ارتفع نشاطه وبعضها انخفض، وشملت هذه الجينات:
- جينات مرتبطة بالإشارات العصبية، مثل مستقبلات GABA وهرمون الأوكسيتوسين، المسؤولة عن التهدئة العصبية والروابط الاجتماعية.
- جينات لحماية الخلايا العصبية ونموها، مثل S100A4 وWNT5a.
- جينات للاستجابة المناعية داخل الدماغ، مثل LCN2.
واللافت أن جزءًا من هذه التغييرات ظل ثابتًا حتى بعد مرور سنوات طويلة، ما يشير إلى أن تجربة الحرمان المبكرة تركت بصمة جينية في دماغ القرد، منها ما كان مؤقتًا ومنها ما بقي دائمًا. تشكل هذه الدراسة حجر أساس لفهم هذه الظاهرة بشكل أعمق في المستقبل، إذ تكشف أن وراء الاستجابات العصبية للرضع، وطريقة تفاعلهم وتواصلهم مع محيطهم، تكمن عمليات معقدة على مستوى الجينات قد تحدد مسار نموهم العصبي والسلوكي مدى الحياة.
المصدر: nature