
هل ستُنتج مزارع الغد أدويتنا؟
تخيّل أن حبة دواء تُزرع مثل القمح، أو أن لقاحًا ضد السرطان يُستخرج من أوراق نبات التبغ... هذه ليست حبكة فيلم خيال علمي، بل حقيقة علمية تتطور يومًا بعد يوم في عالم يُعرف بـ" الزراعة الجزيئية" أو Molecular Farming.
تعتمد هذه التقنية على تعديل النباتات وراثيًا لتحويلها إلى مصانع حيوية تنتج بروتينات طبية، مثل اللقاحات، والإنزيمات، والأجسام المضادة، بدلًا من إنتاج الغذاء فقط.
ويُعد هذا التوجه من أبرز تطبيقات التكنولوجيا الحيوية الخضراء (Green Biotechnology)، حيث يلتقي الطب والزراعة في حقلٍ واحد، والهدف: جعل العلاج متاحًا، أرخص، وأكثر استدامة.
كيف تعمل الزراعة الجزيئية ؟
يقوم العلماء بإدخال جين معيّن إلى نبتة مثل البطاطا أو الذرة، ليصبح بإمكانها إنتاج مادة علاجية داخل خلاياها. بعد زراعتها وحصدها، يتم استخراج المادة الفعالة وتنقيتها لاستخدامها في تصنيع الأدوية.
من أبرز الأمثلة:
- لقاح التهاب الكبد B من نبات البطاطا: ما زال في مرحلة بحثية وتجريبية ولم يُعتمد تجاريًا بعد.
- إنزيمات هضمية للأطفال المصابين بأمراض نادرة من نباتات الذرة: في مرحلة التجارب المعملية وهو قيد التطوير، ولم تدخل نطاق الاستخدام الواسع.
- لقاحات فيروسية للحيوانات من التبغ: ولقد وصلت اللقاحات إلى مراحل تجريبية متقدمة، لكن لم يُطرح تجاريًا بشكل واسع .
- مثال تجاري ناجح – دواء Elelyso® ( taliglucerase alfa): إنزيم لإحدى الأمراض النادرة (Gaucher disease)، أُنتج في نبات الجزر وحصل على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) عام 2012.
المخاطر وإجراءات السلامة في الزراعة الجزيئية
رغم الصورة الواعدة التي ترسمها الزراعة الجزيئية، إلا أنها لا تخلو من تحديات ومخاطر. فإمكانية انتقال الجينات المنتجة للمركبات الدوائية إلى محاصيل غذائية تقليدية تثير القلق من تلوث السلاسل الغذائية. كما أن زراعة نباتات معدلة على نطاق واسع لإنتاج بروتينات علاجية قد تؤثر سلبًا في التنوع الحيوي.
يضاف إلى ذلك المخاوف المجتمعية حول تقبّل فكرة أن النباتات الزراعية يمكن أن تتحول إلى مصانع لإنتاج أدوية أو لقاحات. ولهذا، تعتمد بعض الدول إجراءات صارمة للحد من هذه المخاطر، مثل زراعة المحاصيل الدوائية في بيوت محمية أو مناطق معزولة، وإخضاعها لرقابة تنظيمية دقيقة، إضافة إلى تطبيق بروتوكولات تمنع اختلاطها بالمحاصيل الغذائية التقليدية
دروس من التجارب الدولية
في جنوب أفريقيا، أطلق مجلس الأبحاث للعلوم والصناعة (CSIR)، بقيادة الدكتور Blessed Okole، مشروعًا رائدًا تحت اسم Pharma-Planta Consortium بالتعاون مع باحثين أوروبيين.
ركز المشروع على استخدام نباتات محلية مثل التبغ والذرة لإنتاج أدوية حيوية بأسعار أقل، خاصة لعلاج أمراض مزمنة مثل فيروس نقص المناعة (HIV) والسل. فإن هذه الطريقة يمكن أن تخفض التكاليف بنسبة تصل إلى 90% مقارنة بالطرق التقليدية. هذه التجربة تبرهن أن الدول النامية، رغم التحديات، تستطيع استغلال هذه التقنية لتعزيز أمنها الصحي.
آفاق مستقبلية
حين أتأمل مستقبل الزراعة الجزيئية، أرى أمامي ملامح ثورة هادئة قد تغيّر شكل أنظمة الصحة كما نعرفها اليوم. لست مضطرة أن أتخيل مصانع عملاقة بعيدة عن متناول الناس، بل أتصور مزارع دوائية صغيرة ملتصقة بالمستشفيات والجامعات، تُزرع فيها النباتات ليس لتأمين الغذاء فقط، بل لإنتاج الدواء مباشرة عند الحاجة. في هذا العالم، يصبح بالإمكان تصنيع لقاح أو بروتين علاجي محليًا، بسرعة، وبتكلفة أقل، وبما يتناسب مع حجم الطلب الفعلي.
وأجد نفسي أفكر أيضًا في إمكانيات أبعد من ذلك: ماذا لو أصبح بإمكاننا زراعة محاصيل معدلة خصيصًا لإنتاج علاج مصمم لمرضى معينين أو لمجتمعات تعاني من أمراض خاصة بها؟ سيكون ذلك انتقالًا من الإنتاج الضخم التقليدي إلى إنتاج "شخصي عند الطلب"، حيث يتحول الدواء من منتج بعيد ومعقد إلى ثمرة قريبة من الأرض، قريبة من الناس، وأكثر ارتباطًا بحاجاتهم اليومية.
خاتمة
الزراعة الجزيئية ليست مجرد خطوة جديدة في مسار العلوم، بل هي رؤية مبتكرة لإعادة تعريف دور النباتات في حياة الإنسان. فبدلًا من أن تكون الحقول مصدرًا للغذاء فقط، يمكن أن تصبح أيضًا مصانع خضراء لإنتاج اللقاحات والأدوية، بما يجعل العلاج أكثر قربًا وتكلفة أقل.
ورغم أن الطريق ما زال في بداياته البحثية والتجريبية، إلا أن الإمكانات الكامنة في هذه التقنية تبشر بمرحلة مختلفة من الرعاية الصحية، مرحلة أكثر عدلًا واستدامة، تضع المعرفة والابتكار في خدمة صحة الإنسان أينما كان.