
إن إدراك موت إنسان عزيزعلى القلب لهو من أوجع ما قد يلمُّ بنا، لكن الأوجع هو عدم الإدراك، ليس بسبب إنكار حقيقة موته بل لعدم وجود مايثبت ذلك. فيبقى الشخص معلقًا، دون إيجاد نهاية للجراح التي تنكّأ عند كل ذكرى له. ومع مرور السنين وتقشّف الأمل قد تصبح أماني قلوب الأحبة عبارة عن وجود قبر لهذا البعيد المغيب القريب من الذاكرة، تلجأ إليه متى أحبت.
هذا الكم الهائل من الألم المركب يطوف في قلوب وعقول مئات الآلاف من الشعوب التي تعرضت لمجازر ممنهجة، وكان للسوريين نصيب كبير منه. فبعد عقود من الوحشية التي شنها الأسد ومعاونيه، تأمل العائلات الحداد على أحبتها ومحاسبة من تسبب بكل هذه الفظائع.
إن البشر على مر العصور لم ينكفئوا عن تطوير ابتكارات متنوعة، منهم من استخدمها بالدمار والآخر بالعمار. وفي العقدين الآخرين شهدنا ثورة في تحليل الحمض النووي وهو ما يمكن أن يكون مفتاح العدالة الانتقالية سواء في كشف مصير المفقودين والمغيبين قسرًا أو في محاسبة الجناة والمسؤولين.
في هذا المقال نقرأ عن دور التكنولوجيا الحيوية ولا سيما تقنية تحليل الحمض النووي الـ DNA في الكشف عن مصير المغيبين وخاصة من الضحايا في المقابر الجماعية ومعرفة ما آل إليه مصيرهم، ودوره في تجميع الأدلة لمعاقبة وتوقيف من تسبب بذلك، مستفيدين من تجربة سريبرينيتسا في البوسنة ومسلطين الضوء على الواقع السوري الحالي بخصوص هذا الملف.
لنأخذ نظرة سريعة
يعتبر الشخص " مغيبًا قسرًا" في القانون الدولي إذا كان مكان وجوده أو مصيره غير معلوم. في حالات الحروب والأنظمة القمعية تكون السجون ملجأ الأجوبة المأمولة. لكن في المشهد السوري وبعد تبييض السجون وسقوط نظام الأسد، أصبحت المقابر الجماعية المفتاح الأولي لاكتشاف مصير المفقودين.
إن مسار الكشف عن المفقودين طويل ومعقد ويتطلب لجان في التحقيقات الجنائية، الطب الشرعي، علماء الجينات والأنثروبولوجيا، إضافة إلى ممثلي الهيئات المختصة.
هذه اللجان عادة ما تبدأ عملها بجمع شهادات أهالي المفقودين أولاً ومن ثم السكان المجاورين لأماكن مشتبه أنها شهدت انتهاكات، إلى جانب تحليل اعترافات أشخاص تورطوا سابقًا في عمليات الاعتقال أو القتل أو الإخفاء. تُعدّ هذه الإفادات نقطة انطلاق ضرورية، لكنها غالبًا ما تكون غير كافية بمفردها لتحديد مصير الأشخاص أو مواقع الدفن السرية.
لهذا، تُدعم هذه الشهادات بأدلة مادية وتقنية، كصور الأقمار الصناعية التي تُراجع عبر فترات زمنية مختلفة، بحثًا عن تغيّرات غير طبيعية في التربة من حفر وردم وتغير في شكل الغطاء النباتي. وغيرها من التقنيات الحديثة كاستخدام رادار اختراق الأرض (GPR) الذي يسمح بكشف الفراغات تحت سطح التربة دون الحاجة إلى الحفر، بالإضافة إلى الاستعانة بالكلاب البوليسية المدربة على تتبع رائحة تحلل الأجسام البشرية. كما تُستخدم الطائرات المسيّرة (الدرون) المزودة بكاميرات حرارية أو متعددة الأطياف لرصد المؤشرات الأرضية الدقيقة التي قد لا تُرى بالعين المجرّدة.
يتبع تحديد مكان المقبرة، عملية استخراج الرفات بشكل دقيق مع توثيق كل ذلك ضمن منهجية معينة. يتلوها سلسلة من التحاليل المخبرية، لمحاولة تحديد هوية الضحايا.
وتُعدّ تقنية تحليل الحمض النووي الـ DNA حجر الأساس في هذه المرحلة، إذ تُقارن عينات الرفات مع تلك التي يقدمها ذوو المفقودين. وهنا تبرز أهمية الفروقات الدقيقة في الشيفرة الوراثية، والتي تشكّل جوهر عملية المطابقة.
فكثيرًا ما سمعنا أن البشر يتشاركون الحمض النووي بنسبة 99.9% ، إذًا الـ 0.1% هي ما تسبب في اختلافنا. معظم التقنيات المستخدمة في تحليل الـ DNA تعتمد على تحديد هذا الجزء المختلف وقراءته.
بعض هذه الأجزاء تتشابه مع الأقارب بسبب الوراثة. ولهذا تُستخدم في تحليل تحديد القرابة. وعند إجراء التحليل، تُقارن هذه المواقع الجينية بين العينات، وتُحسب نسبة التطابق باستخدام نماذج إحصائية دقيقة، وإذا بلغت مستوىً علميًا معتمدًا، تُستخدم لتأكيد أو نفي وجود صلة قرابة.
في حال كان الهدف تحديد هوية رفات الضحايا في مقابر جماعية، فغالبًا ما يستلزم الأمر أخذ عينةِ أكثر من شخص من عائلة المفقود لتأكيد هوية الضحية. وذلك لأن عينة الحمض النووي القادمة من الرفات من الممكن أن تكون غير مكتملة. بمعنى أن التركيب الكيميائي للحمض النووي قد تكسَّر أو أنه تلف بسبب الحرارة أو الرطوبة أو لأسباب أخرى.
كما أن احتمال وجود ضحايا من نفس العائلة كأولاد العم والخال قد يؤدي إلى تشابه في بعض الصفات الجينية، مما يُصعّب تأكيد الهوية بناءً على عينة واحدة فقط، ويستلزم مقارنة أوسع مع أكثر من قريب لتعزيز دقة المطابقة وتقليل هامش الخطأ.
البداية من سريبرنيتسا
بعد المجازر المروعة التي حدثت في يوغوسلافيا بين أعوام 1992-1995، قدر عدد المفقودين بأكثر من 40 ألف شخص. وخلال الأعوام التي تلت هذه المأساة عملت المؤسسات على تحديد هوية الضحايا. لكن بسبب شح التقنيات المتوفرة آنذاك وشدة تعقيد وكبر حجم الانتهاكات، لم تستطع الجهات المعنية سوى التعرف على عدد قليل جدًا من الضحايا.
من مدينة سريبرينيتسا لوحدها، قُدرت فيها انتهاكات التطهير العرقي بحق البوشناق المسلمين من قبل الصرب، بأكثر من 8 آلاف نسمة. وبعد خمس سنوات من العمل الشاق والمرهق نفسيًا وجسديًا لم تُسفر العملية إلا عن التعرف على هوية أقل من 100 شخص.
لكن مع مطلع الألفينات، ولأول مرة في قضايا بهذا الحجم، استُخدمت تقنية تحليل الحمض النووي، مما شكّل نقطة تحول حاسمة في مسار التعرف على الضحايا.
ورغم أن أول استخدام لتحليل الحمض النووي في الطب الشرعي يعود إلى أوساط الثمانينات، إلا أن النسخة البدائية من التحليل غالبًا ما اقتصرت على حل القضايا الجنائية الفردية، وذلك بسبب كلفتها العالية والوقت الطويل الذي تستهلكه.
بعد انتهاء حرب يوغوسلافيا قام الرئيس الأمريكي بيل كلينتون بإنشاء اللجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP)، وبدأت كهيئة سياسية ترأسها وزير الخارجية الأمريكية حينها، وذلك بهدف مساعدة اللجنة الدولية لتحقيق عدالة انتقالية عن طريق الضغط على المسؤولين للكشف عن مصير المغيبين.
كانت فاجعة سريبرينيتسا الكبيرة والمعقدة هي البداية. فبجانب العدد الهائل للضحايا، كُشف عن نقل الجثامين بالجرافات لعدة مرات من مقبرة جماعية إلى أخرى. أجزاء الجسد الواحد تفككت وغالبًا ما توزعت على ثلاثة إلى أربع مواقع مختلفة تفصلها العديد من الكيلومترات وصل بعضها إلى 50 كلم.
ما بين عامي 1999 و 2000 أطلقت ICMP برنامج "تحديد الهوية باستخدام الحمض النووي" والذي عُدّ الأكبر من نوعه في ذلك الوقت. وقد أنشأت ضمنه قاعدة بيانات ضخمة تضم ملفات الحمض النووي لكل من عائلات المفقودين ورفات الضحايا، تتيح إجراء المقارنات وتسهل عمليات المطابقة. واعتمد البرنامج على نظام متخصص يُعرف بـ نظام إدارة بيانات الهوية (iDMS)، وهو ما جعل استخدام تحليل الحمض النووي في قضايا جماعية بهذا الحجم ممكنًا وفعّالًا.
وشُرع بشرح التقنية لأهالي المفقودين وحثهم على إعطاء المزيد من الدماء، ولكن هذه المرة من أجل معرفة مصير دماء أحبابهم.
جُمعت 90,000 عينة دم من مختلف عائلات الضحايا في يوغوسلافيا، أكثر من 22,000 منهم لسربرنيتسا. وذلك لمقارنتها مع عينات الحمض النووي التي كانت تجمع بالتوازي من عظام رفات الضحايا. كما أُنشئت قاعدة بيانات تتسع لضخامة كل من معلومات عينات عائلات المفقودين وتلك العائدة لرفات الضحايا وتسمح بمقارنتها وتسهل عمليات البحث.
وبعد ما يقارب السنة من انطلاق المشروع حصل أول تطابق بين عينتين وتم التعرف على جثة طفل بعمر ال15 سنة.
عامٌ وراء عام أصبح لشواهد قبور الشهداء أسماء واستطاعت المزيد من العائلات أن تواري رفات أحبابهم التراب وأن توقف جزءًا من الآلام.
حتى الآن، تم التعرف على أكثر من 75% من ضحايا مجازر يوغوسلافيا، و90% من ضحايا سربرنيتسا. ما زالت اليوم عمليات مطابقة الحمض النووي قائمة، ففي العام الفائت فقط تم التعرف على 14 شخصًا.
وفي كل سنة من 11 تموز/ يوليو وبعد ما يقارب الثلاثة عقود من المجزرة المروعة يتم دفن وتكريم الأشخاص الذين تم التعرف عليهم حديثًا.
الجرح السوري
قدرت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين عدد المغيبين في سوريا بـ 200,000 شخص. وكانت اللجنة قد بدأت العمل على الملف السوري منذ عام 2017، إذ باشرت بأخذ العينات من السوريين في المهجر والمناطق المحررة من حكم الأسد. واستطاعت إلى الآن جمع 80 ألف عينة من عائلات كانوا قد أبلغوا عن فقد 30 ألف شخص.
إن سوريا الآن لا تحتوي سوى على مختبر واحد لتحليل الحمض النووي، وتكلفة التحليل تقارب الـ 250 دولاراً أمريكياً. يقول الدكتور أنس الحوراني رئيس مركز تحديد الهوية السوري أن "في مقبرة جماعية مختلطة، يتعين إجراء حوالي 20 اختباراً لجمع كل أجزاء جسد واحد".
صدر الأسبوع الماضي مرسوم رئاسي من الجمهورية العربية السورية يشمل تشكيل هيئتين تعنيان بالعدالة الانتقالية، و بالمفقودين. وهو مايعد خطوة أولى في مسار مواجهة أحد أكثر الملفات حساسية في الذاكرة السورية.
لقد أثبتت تجربة البوسنة أن نجاح هذا النوع من المبادرات يتطلب بنية علمية وقانونية متماسكة، تبدأ من إنشاء قاعدة بيانات موثوقة، ومختبرات متخصصة، وتعاون حقيقي مع منظمات دولية و إشراك ذوي المفقودين.
اليوم، تواجه سوريا تحديات كبرى من محدودية البنية التحتية، إلى صعوبة الوصول إلى أماكن الدفن، مرورًا باستمرار وجود بعض الجناة طلقاء. لكن في المقابل، تتوفر فرصة نادرة إن أُحسن استغلالها للبدء بمسار جاد نحو معرفة الحقيقة، ومحاسبة المسؤولين، وإنصاف العائلات التي قدمت الكثير. ممكن ذكر العبث باماكن المقابر الجماعية وتغييب الادلة
المستقبل
إن العمل على ملف المفقودين يعد من أحد ركائز العدالة الانتقالية، فلن يتحقق النهوض بسوريا ولن تهدأ جراح الأهالي دون معرفة مصير أحبائهم ومحاسبة المجرمين.
من مجازر الصرب في يوغسلافيا إلى مجازر الأسد في سوريا، ولدت العديد من التقنيات الجديدة التي تسهل وتسرع العملية وتساعد على حل ما لم يكن ممكنًا. فمثلاُ تتيح التقنيات الحديثة تحليل الحمض النووي كاملاً وإن كانت العينة صغيرة جدًا. كما أن هذه القنيات تغلبت على مشاكل متعلقة بتلفان عينة الـ DNA، وأصبحت قادرة على القيام بالتحليل بسرعة أكبر وتكلفة أقل.
أضف إلى ذلك التطور المذهل للذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، والذي يتيح تحليل بيانات العينات الضخمة لتحاليل الأحماض النووية والتعرف على الأنماط ومقارنتها بدقة وسرعة هائلة.
إن حجم المأساة كبير جدًا ولا شك أنه لا غنى عن مساهمة المانحين الدوليين والمؤسسات المعنية لتأمين الدعم المالي والتقني على المدى الطويل. وفي المقابل فإن الشعب الذي بذل الغالي والنفيس لن يتوانى عن العمل باتجاه تأمين العدالة.