إعادة الحيوانات المنقرضة إلى الحياة: حقيقة أم تحايل علمي؟

إعادة الحيوانات المنقرضة إلى الحياة: حقيقة أم تحايل علمي؟

حيوية | May 29, 2025 بواسطة أميرة خليل

أميرة خليل
أميرة خليل
منذ أسبوع
مشاركة:
إعادة الحيوانات المنقرضة إلى الحياة: حقيقة أم تحايل علمي؟

"نوع من الذئاب انقرض قبل نحو 13 ألف عام يعود إلى الحياة بفضل التعديل الجيني!" بهذا التصريح أثارت شركة "كولوسال بيوساينس" الأمريكية الجدل في شهر نيسان من عام 2025. "إنهاء الانقراض" هو شعار الشركة المثير للتساؤلات؛ إذ تدّعي أنّ أبحاثها في مجال الهندسة الوراثية قد تُسهم في استعادة التوازن البيئي عبر استرجاع كائنات اندثرت منذ آلاف السنين.

وفي آخر مشاريعها الشهيرة، أعلنت الشركة عن ولادة ثلاث جراء تحمل صفات الذئب الرهيب (Dire Wolf)، أحد أشرس المفترسات التي جابت الأمريكتين قبل نهاية العصر الجليدي الأخير. إلا أن بعض العلماء وصفوا هذه التصريحات بكونها مضلِّلة، مؤكدين أن الكائن الناتج لم يكن ذئبًا رهيبًا حقيقيًا، بل ذئبًا رماديًا عُدّلت جيناته ليمتلك بعض صفاته الظاهرية، دون أن يحمل بصمته الجينية الكاملة أو سلوكياته الأصلية.

هذا المشروع يفتح أبواب النقاش العلمي والأخلاقي حول معنى "عودة الحياة"، وحدود تدخل الإنسان في التاريخ الطبيعي. في هذا المقال، نستعرض الأسس العلمية وراء هذا النوع من التجارب، ونتعمق في مفهوم "إعادة الأنواع المنقرضة إلى الحياة" عبر مناقشة تقنيات التعديل الجيني والاستنساخ. كما نتطرق إلى الجانب الأخلاقي والأهداف الحقيقية وراء هذه الجهود: هل تمثل هذه المشاريع نفعًا بيئيًا أو علميًا حقيقيًا؟ أم أنها مجرد أداة للترويج والتسويق التجاري؟

ظاهرة الانقراض 

على مرّ العصور، ومع التغيّرات المناخية والكوارث الطبيعية المتكرّرة، تبدّلت مظاهر الحياة على الأرض مرارًا وتكرارًا. فقد شهدت سهولها وجبالها حياة ملايين الأنواع من الحيوانات، خلّف بعضها آثارًا تروي جزءاً من قصتها، فيما اندثر بعضها الآخر دون أن يترك خلفه أي دليل على وجوده.

لطالما شكّلت ظاهرةُ الانقراض جزءًا طبيعيًّا وأساسيًّا من مسار التطوّر البيولوجي، وتنوّعت أسبابها ما بين تغيّراتٍ بيئية، أو منافسةٍ مع أنواع أخرى، أو كوارثٍ طبيعية. فعندما تواجه الكائنات الحيّة ظروفًا تتجاوز حدود قدرتها على البقاء تتضاءل أعدادها تدريجيًا حتى يختفي أخر أفرادها وتنقرض.

وإذا كان الانقراض في الماضي يحدث لأسباب طبيعية، فإن ما نراه اليوم يختلف تمامًا. فقد أصبح التدخّل البشري، من تدمير المواطن الطبيعية، والصيد الجائر، والتلوّث، وصولًا إلى التغيّر المناخي، هو المسبب الأساسي لتراجع التنوع البيولوجي وانقراض أنواع كثيرة بوتيرة متسارعة وغير مسبوقة.

الأساليب العلمية لإعادة الحيوانات المنقرضة إلى الحياة

في مواجهة هذا التراجع الحاد في التنوع البيولوجي، بدأ العلماء في استكشاف سبل غير تقليدية لمواجهة الانقراض. ومن هنا نشأت فكرة "إعادة الأنواع المنقرضة إلى الحياة" (De-extinction). في معناها الأصلي، تشير الكلمة إلى إعادة الحيوان المنقرض ذاته إلى الحياة. 

إلّا أنّ هذا المفهوم أثار مؤخرًا جدلًا بشأن الكيفية الأنسب لتعريفه، نظرًا لستخدامه في بض الحالات لوصف كائنات معدّلة وراثيًّا تنتمي إلى أنواع معاصرة، تُصمَّم جيناتها لتُشبه الكائن المنقرض في بعض صفاته. ويُخشى من أن يُضلّل مصطلح De-extinction الرأي العام، إذ يمنح هذه الجهود بُعدًا مبالغًا فيه لا يعبّر بدقّة عن طبيعة بعض المشاريع العلمية الجارية، والتي تعتمد على تقنيات متقدمة تمزج بين علم الوراثة والهندسة الحيوية.

وفي هذا السياق، نستعرض أبرز طريقتين تُستخدمان حاليًا في هذا المجال: الاستنساخ (Cloning) والهندسة الوراثية (Genome Editing).

الاستنساخ (Cloning)

يهدف الاستنساخ إلى إنتاج كائن حي يطابق تمامًا كائنًا منقرضًا من خلال نقل مادته الوراثية من خلية جسدية مكتملة إلى بويضة مُفرغة من نواتها، وتحفيزها للانقسام، ثم زرع الجنين في رحم بديل.

في عام 2003، استخدم العلماء هذه التقنية لمحاولة إعادة ماعز البيرينيه الجبلي (Pyrenean ibex)، وهو نوع من الماعز البري انقرض بعد أن ماتت آخر أنثى منه إثر سقوط شجرة عليها عام 2000. وقد نجحت التجربة في البداية، حيث وُلدت بالفعل أنثى مستنسخة من هذا الحيوان، إلا أنها عانت من تشوهات رئوية أدت إلى وفاتها بعد سبع دقائق فقط من ولادتها، لتُصبح بذلك أول كائن منقرض يعود إلى الحياة، وأيضًا أول كائن ينقرض مرتين.

الجدير بالذكر أن عملية الاستنساخ تتطلب وجود خلايا حية محفوظة من الكائن المنقرض، مما يجعلها غير قابلة للتطبيق لالحيوانات التي انقرضت منذ آلاف السنين، إذ لا يمكن استعادة خلاياها السليمة. ولذلك، يقتصر تطبيق هذه التقنية على الأنواع التي انقرضت حديثًا والتي تم حفظ خلاياها في بنوك حيوية.

رغم التقدم في تقنيات الاستنساخ، كما في تجربة استنساخ حيوان القاقم أسود القدم عام 2020، لا تزال هذه التقنيات تواجه تحديات كبيرة تُعيق فعاليتها كأداة لحماية الأنواع المهددة. من أبرزها انخفاض نسب النجاح، وظهور تشوهات خَلقية ومشكلات صحية في الكائنات المستنسخة. إلى جانب ذلك يُعد انخفاض التنوع الجيني في الكائنات المستنسخة تحديًا جوهريًا، نظرًا لاعتمادها على جينومات متشابهة للغاية، مما يقلل من قدرتها على مقاومة الأمراض ويُضعف مناعتها على المدى الطويل.

التعديل الجيني (Genome Editing)

يُعَدّ التعديل الجيني من أشهر التقنيات المتقدمة في العلم الحديث، وقد تم تطبيقه في الكثير من المجالات، ومن بينها مشاريع إعادة الأنواع المنقرضة منذ قرون. تعتمد هذه التقنية على توفّر المعلومات الجينية للكائن المنقرض. وهو أمر صعب  بسبب التحلل السريع للحمض النووي مما يجعل العثور على عينة سليمة أو شبه سليمة لكائن انقرض منذ  آلاف السنين من أكبر التحديات.

لكن مع التقدّم المتسارع في تقنيات استخراج الحمض النووي (DNA Extraction) وتسلسله (DNA Sequencing)، أصبح بإمكان العلماء معالجة الحمض النووي المتضرر، وفصل الأجزاء السليمة منه، بل واستخدام عدة عينات من بقايا الحيوان ذاته لإعادة تركيب الجينوم الكامل. يُقارن هذا الجينوم المُعاد بناؤه بجينوم أقرب الأنواع الحية إلى الكائن المنقرض، ومن خلال تحليل الفروقات الجينية، يتم تحديد الجينات المسؤولة عن خصائص الحيوان المنقرض المميزة، ثم إدخالها في جينوم النوع المعاصر باستخدام تقنية "كريسبر" (CRISPR).

ولا يُمكن اعتبار الكائن الناتج نسخة مطابقة للكائن المنقرض، بل هو كائن معدل وراثيًا من نوع حي معاصر، أُدخل في جينومه بعض الجينات المستخرجة من النوع المنقرض. ويُصنَّف هذا الكائن على أنه "بديل بيولوجي" (proxy) أو "هجين" (hybrid)،  يحمل بعض السمات الوراثية للكائن الأصلي، دون أن يكون مطابقًا له تمامًا.

عودة الذئب الرهيب

بدأ المشروع باستخراج الحمض النووي القديم من عينات تشمل سنًّا عمره نحو 13 ألف عام، وعظمة أذن داخلية تعود إلى نحو 72 ألف عام. وبعد جهود مكثفة بذلها فريق بحثي دولي وعلماء شركة "كولوسال"، تمكنوا من استعادة جزء من الجينوم الخاص بالذئب المنقرض، ومقارنته بجينوم أقرب الأنواع الحية إليه، وهو الذئب الرمادي. 

عبر هذه المقارنات تم تحديد الفروقات الجينية الرئيسية التي تميز الذئب الرهيب عن قريبه المعاصر. وباستخدام تقنية التعديل الجيني "كريسبر-كاس9" (CRISPR-Cas9)، أدخل الباحثون تعديلات دقيقة في 20 موضعًا موزعة على 14 جينًا مختلفًا في جينوم الذئب الرمادي، وهي جينات مرتبطة بصفات كالحجم، وشكل الجمجمة والفك، ولون الفرو.

وكما ذُكر سابقًا، فقد أثارت طريقة تصريح الشركة، التي اتّسمت بالمبالغة وافتقرت إلى الدقة العلمية، شكوكًا حول دوافع هذه التجارب والمستفيد الحقيقي منها. فقد اتّهمها البعض بأنها تروّج لمشاريعها تحت شعارات علمية براقة، سعيًا وراء الريادة التقنية والربح الإعلامي، لا حماية البيئة. ورغم الجدل، تواصل الشركة مشاريعها، وأبرزها وأكثرها طموحًا: عودة الماموث الصوفي.

محاولات إعادة الماموث الصوفي

عاش الماموث الصوفي في مناطق التندرا بشمال أوراسيا (Euroasia) وأمريكا الشمالية، وانقرض آخر أفراده قبل نحو 4000 عام. ساعدت البيئة الجليدية على حفظ بقاياه بشكل استثنائي، ما أتاح للعلماء استخلاص وتحليل حمضه النووي.

يسعى الباحثون إلى إدخال جينات الماموث إلى جينوم الفيل الآسيوي، أقرب أقربائه الأحياء، وذلك لتعديله بحيث يصبح قادرا على تحمل البرد القارس. وتشمل الصفات المستهدفة: الشعر الكثيف، الأذنين الصغيرتين، الهيموغلوبين المتكيف مع البرودة، وطبقات الدهون السميكة.

في تجربة أولية، نجح فريق "كولوسال بيوساينس" في إدخال جينات الماموث إلى فئران المختبر، التي أظهرت سمات تكيفية واضحة مثل نمو الشعر وزيادة معدل الأيض الدهني. ويسعى الفريق إلى إنتاج أول هجين من "ماموث-فيل" بحلول عام 2028، ليكون كائنًا معدلًا قادرًا على التأقلم مع البيئة الجليدية.

لماذا نحاول إعادة هذه الكائنات؟

أكثر ما أثار الجدل بعد تجربة الذئب الرهيب هو البعد الأخلاقي والعلمي لمثل هذه المحاولات. إذ تدّعي شركة "كولوسال" أن هدفها من إعادة هذه الأنواع هو استعادة النظم البيئية القديمة عبر تعزيز التنوع البيولوجي، بل وحتى المساهمة في الحدّ من آثار التغير المناخي. تقول الشركة إن الكائنات المنقرضة كانت تؤدي أدوارًا بيئية مميزة، وإن إعادتها قد تخلق "تأثيرات متسلسلة" تُصلح ما أفسده البشر في النُظم البيئية.

لكن العديد من العلماء ينتقدون هذا المنطق، ويرون أن محاولة إعادة كائنات من عصور غابرة لا يعد سوى استعراضًا تقنيًا مكلفًا، يشتت الانتباه والتمويل عن جهود إنقاذ الأنواع المهددة بالانقراض اليوم. إذ أن المَواطن الأصلية لهذه الكائنات لم تعد موجودة أو تغيّرت جذريًا، ما يجعل من إعادة توطينها في بيئاتها "القديمة" أمرًا عبثيًا محفوفًا بالمخاطر. والأسوأ من ذلك، أن وجود خيار "الاسترجاع لاحقًا" قد يُقلّل من الشعور بالإلحاح لحماية الأنواع المهددة بالانقراض، أو حتى يُستخدم كمبرر غير مباشر لتدمير المواطن الطبيعية الحالية.

إن هذا التلاعب الجيني العبثي بالمخلوقات، خاصة عندما يكون بدوافع تجارية أو دعائية، ولم تُثبت له علميًا أي فائدة حقيقية للبيئة ولا للحيوان، يُعدّ انتهاكًا لأخلاقيات البحث العلمي و يطرح إشكاليات أخلاقية ودينية حول مدى مشروعية هذا النوع من التدخل في الخلق. فمثل هذه الممارسات تؤدي إلى ولادة حيوانات مريضة أو غير مكتملة النمو، ما يعرّضها لمعاناة وإهدار حياتها دون مبرر. ومع ذلك، فإننا نناقش هذه القضايا لفهمها وتوسيع أفقنا حول ما يمكن أن تقدمه التكنولوجيا الحديثة، حتى نتمكن من توظيفها في مواضعها الصحيحة، أو التحذير من عواقب استخدامها في غير محلها. 


احصل على إشعار لكل مقال جديد!