العلاج الجيني: ثورة علمية أو تهديد؟

العلاج الجيني: ثورة علمية أو تهديد؟

حيوية | May 14, 2025 بواسطة أميرة خليفة

أميرة خليفة
أميرة خليفة
منذ 23 ساعة
مشاركة:
العلاج الجيني: ثورة علمية أو تهديد؟

هل نملك الحقّ فعلاً في إعادة كتابة أو تعديل شفرتنا الجينية؟ 

في السنوات الأخيرة، برز مصطلح "العلاج الجيني" بشكل ملحوظ، إذ يحمل آفاقًا واعدة لعلاج الكثير من الأمراض الوراثية المستعصية التي لطالما حلم الأطباء بعلاجها. 

ولكن تحت طيّات هذه التقنية الثورية، تنطوي العديد من التحديات الأخلاقية التي من الممكن أن تعزّز الطبقية، وتمكّن فئةً من المجتمع من الهيمنة على أخرى، كما أنها تشكّل تهديدًا حقيقيًا يمسّ الهوية البشرية بشكل مباشر. 

إن الوسط العلمي حاليًا مليء بالأسئلة الجوهرية حول مستقبل هذه التقنية، وقد قُيّدت بعض أنشطتها في عدد من الدول إلى حين صدور قوانين وضوابط واضحة تحكم هذا المجال الواسع.

في هذا المقال، نُلقي الضوء من زاوية حيادية على العلاج الجيني، ما بين آفاقه المستقبلية وتحدياته ومخاطره المحتملة.


العلاج الجيني: المفهوم والمبدأ

تخيّل أن لديك شخصًا عزيزًا وُلد بمرض مناعي خطير مثل نقص المناعة المشترك الشديد (SCID)، وهو مرض نادر يمنع الجسم من إنتاج خلايا مناعية كافية. وحتى اليوم، لا يمتلك الطب الحديث أي حلول دوائية فعّالة لهذا المرض.

هنا يظهر العلاج الجيني كحلّ ثوري، يهدف إلى تعديل أو استبدال الجين المعيب المسؤول عن المرض، ليُعالج الخلل من جذوره.


من الجينوم البشري إلى أدوات العلاج

منذ سنوات، شرع العلماء في تنفيذ مشروع ضخم عُرف بـ"مشروع الجينوم البشري"، هدفه فكّ الشيفرة الوراثية الكاملة للإنسان ودراسة الحمض النووي بتفاصيله الدقيقة.
نعلم اليوم أن البشر يتشابهون في 99.9% من حمضهم النووي، بينما يشكّل 0.1% فقط مصدر اختلافنا في السمات الظاهرة، كالقامة، ولون العيون، ولون البشرة، وحتى القابلية للإصابة ببعض الأمراض.                                                  

وقد مكّن هذا المشروع العلماء من فهم وظيفة معظم الجينات وتحديد ما قد يحدث عند تعطّل أيٍّ منها.
فعلى سبيل المثال، في حالة مرض SCID، يكون السبب في العادة طفرة في جين ADA أو IL2RG، وهما مسؤولان عن إنتاج بروتينات ضرورية لعمل الجهاز المناعي.
العلاج الجيني هنا يعمل على تصحيح الطفرة في الخلايا الجذعية المكوّنة للدم داخل نخاع العظم، مما يسمح لها بإنتاج خلايا مناعية سليمة تمكّن المريض من التمتع بجهاز مناعي فعّال لأول مرة.


كيف يطبق العلاج الجيني؟ 

العلاج الجيني من الممكن أن يأخذ طريقتين مختلفتين:

  • تعديل الجين الموجود في الجسم بدون استبداله.
  • إزالة الجين المعيب كليًا واستبداله  بجين سليم. 

حيث أن الهدف من الطريقتين هو تصحيح الطفرة الجينية، أو إيقاف عمل جين مسبب للمرض، أو تعديل نشاط الجين ليستعيد توازنه الطبيعي.

يتم ذلك عبر أدوات تُعرف بـ"الناقلات" (vectors)، وهي وسائط تنقل المادة الوراثية المعدّلة إلى داخل خلايا الجسم. وغالبًا ما تُستخدم فيروسات معدّلة، تُفرّغ من محتواها الجيني وتُعبّأ بجين علاجي، ثم تُحقَن في جسم المريض مباشرةً، أو في خلاياه خارج الجسم ثم تُعاد إليه.


العلاج الجيني الجسدي والعلاج الجيني الجنيني 

حين نتحدث عن العلاج الجيني، من المهم أن نُدرك أنه ليس نوعًا واحدًا، بل يختلف حسب نوع الخلايا المستهدفة, ينقسم العلاج الجيني إلى نوعين رئيسيين:

  • العلاج الجيني الجسدي: يُجرى على خلايا غير تناسلية، ويؤثر فقط في الفرد المعالَج.
  • العلاج الجيني الجنيني: يُطبّق على الخلايا التناسلية أو الأجنة، ما يعني انتقال التعديل إلى الأجيال القادمة, وبسبب مخاطره الأخلاقية والعلمية، يُعدّ التعديل الجنيني محظورًا في معظم دول العالم.


حالات ناجحة: تمكن بها العلاج الجيني من السيطرة على المرض

في سابقة طبية استعاد المريض الايرلندي يبلغ من العمر 31 والمصاب بالعمى الوظيفي الوراثي لأكثر من 13 سنة   القدرة على الرؤية بعد عملية تعديل جيني تسمىر"لوكسترنا" (Luxturna).

حمل  المريض الطفرة الجينية (من الجين RPE65) التي أدت للمرض من أبويه, حيث أثرت على وظيفة خلايا الشبكية، مما جعل العين غير قادرة على تحويل الضوء إلى إشارات عصبية تُرسل إلى الدماغ.

تم العلاج عن طريق إدخال نسخة سليمة من الجين (RPE65) إلى خلايا الشبكة عن طريق ناقل فيروسي معدل.

كنتيجة للعلاج الجينيِ استطاع المريض لأول مرة رؤية الحروف والكلمات من جديد بعد الأسابيع الأولى من  العملية. الجدير بالذكر أن تكلفة العملية تجاوزت المليون دولار أمريكي.


الوجه الآخر للتقنية: تحسين القدرات البشرية أم التلاعب بالبشر؟

تشير المعطيات التي ذكرناها إلى أن العلاج الجيني فعلًا تقنية واعدة، ستساعد الكثيرين على الشفاء من أمراض مستعصية، ولكن...

لكل تقنية مخاطرها، والعلاج الجيني  ليس استثناءً، بل يحمل في طياته العديد من التحديات. ولأنه يمسّنا بشكل مباشر كبشر، ويمسّ تركيبتنا الطبيعية، فهناك الكثير من القيود والمخاوف الموجودة حاليًا في الفضاءين الأخلاقي والعلمي. 

ومن بين التطبيقات الأكثر جدلًا للعلاج الجيني، يبرز ما يُعرف بتحسين القدرات البشرية (Human Enhancement)، وهو استخدام أي تدخل طبي أو بيولوجي أو تقني بهدف تعزيز  القدرات البشرية ورفعها إلى ما فوق الحدود الطبيعية.

وتعتبر الأدوية والعلاجات التي تهدف إلى رفع مستوى الذكاء، أو فكرة تعديل الجينات المسؤولة عن خصائص معينة يُراد إضافتها إلى الأجنة قبل الولادة أحد الأمثلة على تحسين البشر.

هذه التقنيات قد تؤدي إلى عدم المساواة والتحكّم الاجتماعي من فئة لأخرى، وبسبب غلاء أسعارها ستكون في متناول يد الأغنياء، ليصبحوا ذوي قدرات وكفاءات عالية فوق الحد الطبيعي، وهو ما يُمهّد هيمنة فئة على أخرى. 

كما أن هناك غيابًا واضحًا للحدود الأخلاقية في هذا المجال؛ فبينما يُعتبر تعديل الجينات لعلاج مرض وراثي أمرًا طبيًا مقبولًا، يثار الجدل عندما يُستخدم التعديل بهدف تعزيز القدرات البشرية، كزيادة الذكاء أو تحسين المظهر.

ولهذا، نحن بحاجة ماسّة إلى حوكمة صارمة وقوانين واضحة، لأن استمرار هذه التقنيات دون إطار أخلاقي قد يُشكّل خطرًا حقيقيًا على هوية الإنسان الأصلية، وربما يؤدي إلى تآكل ملامحها شيئًا فشيئًا مع مرور الزمن.


تعديل الأجنة و فضيحة العالم الصيني

ومع أن معظم المخاوف المرتبطة بالعلاج الجيني لا تزال نظرية أو مستقبلية، إلا أن العالم شهد في السنوات الأخيرة حادثة صادمة مثّلت تطبيقًا فعليًا لهذه المخاوف.

ففي عام 2018، قام عالم صيني بتجربة تُعدّ الأولى من نوعها، حيث أجرى تعديلًا جينيًا على جنينين توأمين باستخدام تقنية CRISPR-Cas9، بهدف تعطيل جين يُستخدم كمدخل رئيسي لفيروس نقص المناعة البشرية (HIV)، لجعل الطفلتين مقاومتين للفيروس.

ورغم أن الهدف الظاهري كان وقائيًا، إلا أن هذه التجربة فتحت بابًا كبيرًا للجدل، لأنها تُمثل أول حالة تعديل جيني على أجنة بشرية يُكتب لها أن تولد، ما يعني أن التعديل سيُورث للأجيال القادمة، دون معرفة دقيقة بتأثيراته على المدى البعيد.

لقد اعتبر كثيرون ما فعله هذا العالم تجاوزًا خطيرًا للمحاذير الأخلاقية والعلمية، وتجسيدًا لما قد يحدث إن غابت الحوكمة، وانفلتت التقنية من ضوابطها، وانتقلت من العلاج إلى التلاعب.


العالم العربي والعلاج الجيني.. أين موقعنا من كل هذا؟

بينما يتقدم العالم بخطى متسارعة في سباق العلاج الجيني، ما زال العالم العربي ـ للأسف ـ بعيدًا عن ساحة التطوير والمشاركة الفعلية. فرغم انتشار العديد من الأمراض الوراثية في مجتمعاتنا، تبقى مساهمتنا في الأبحاث ضعيفة، وأحيانًا شبه معدومة.

ومن أبرز التحديات التي نواجهها في هذا السياق ما يُعرف بـ"العدالة الجينية"؛ أي أن تكون كل شعوب العالم ممثلة في قواعد البيانات الوراثية التي تُستخدم لتطوير العلاجات. لكن الواقع أن أغلب هذه البيانات تأتي من سكان أوروبا وأمريكا، بينما تكاد تغيب الجينات العربية عنها تمامًا.

وهذا النقص لا يعني فقط غياب التمثيل، بل يحمل تبعات خطيرة، إذ قد لا تكون العلاجات الجينية الحديثة فعّالة أو مناسبة لنا، ببساطة لأنها لم تُطوّر بناءً على خصائصنا الجينية.

ورغم كل ذلك، هناك بوادر أمل حقيقية بدأت تلوح في الأفق. فقد بدأت بعض الدول الخليجية تدرك أهمية هذا المجال، وتتحرك نحو سدّ هذه الفجوة عبر مبادرات استراتيجية طموحة، مثل "مشروع الجينوم السعودي"، الذي يُمثّل خطوة واعدة لبناء قاعدة بيانات جينية تعكس سكان المنطقة، وتُمهّد لتطوير علاجات تتوافق مع احتياجاتنا الوراثية.


التعديل الجيني بين العلاج والأخلاقيات العامة

ما بين الأمل بعلاجات واعدة تُنهي معاناة قرون من الأمراض الوراثية، والخوف من تشويه فطرة الإنسان والتأثير على أجيال لم تُولد بعد… يقف العلاج الجيني على مفترق طرق حاد، بين الطب والهوية، بين التقدم والانزلاق الأخلاقي.

وحتى الآن، لا يوجد من يملك السلطة الكاملة ليقرر ما هو “المناسب” في هذا المجال. ولو وُجد، فمن يضمن أن قراراته لن تُبنى على معتقدات أو مصالح ضيّقة، لا تمثل تنوع البشرية ولا تحترم هشاشتها؟ 

المؤكد أن العالم اليوم على أعتاب تحوّل عظيم، قد يرسم ملامح الإنسان القادم كما لم نعرفه من قبل. 

ربما سننجح في وضع حدود أخلاقية حاسمة، وربما سننزلق إلى مستقبل لا نملك فيه قرار أنفسنا.
 لكن ما نعرفه الآن، أن السؤال لم يعد: “هل نستطيع تعديل جيناتنا؟”  بل: من نكون، إذا فعلنا؟




احصل على إشعار لكل مقال جديد!