معجزة الطبيعة المقاومة للإشعاع

معجزة الطبيعة المقاومة للإشعاع

حيوية | July 9, 2025 بواسطة أحمد أبو دان

أحمد أبو دان
أحمد أبو دان
منذ يوم
مشاركة:
معجزة الطبيعة المقاومة للإشعاع

في عالم تسود فيه المخاوف من تأثير الإشعاعات المؤينة على الكائنات الحية، يبرز كائن حي دقيق وغير اعتيادي، يُدعى ديونوكوكوس راديودورانز (Deinococcus radiodurans) أو إذا أردنا ترجمة حرفية من اليونانية يمكننا أن ندعوها بالخلية الكروية المقاومة للإشعاع. يتميز هذا الكائن المتناهي الصغر بقدرته الخارقة على تحمل جرعات هائلة من الإشعاع، والتي تكفي عادةً لقتل معظم أشكال الحياة الأخرى. 

اكتُشفت هذه البكتيريا بالصدفة عام 1956، وذلك خلال تجربة تعقيم لعلبة لحم إذ قام الفريق البحثي باستخدام جرعة كبيرة من أشعة غاما التي كان يعتقد أنها تقوم بقتل كل أنواع الكائنات المعروفة، فإذا بهذه البكتيريا تقاوم وتنجو. 

ومنذ ذلك الحين، ركَّزت جهود الأبحاث على فهم أسرار هذه المقاومة الإشعاعية الفريدة. لكن كلما تقدمت الأبحاث ازداد الغموض؛ إذ أن العلماء لم يجدوا عاملًا وحيدًا يفسر الظاهرة، بل مجموعة معقدة ومتكاملة من الآليات. 

كيف تنجو من الإشعاع؟

يكمن السر وراء تحمّل بكتيريا الديونوكوكوس للإشعاع، في تناغم عدة آليات بيولوجية. فعندما تقوم الأشعة الإيونية في تكسير سلاسل الحمض النووي — وهو حدث كارثي بالنسبة لمعظم الخلايا و قد يتسبب في موتها— تفعل البكتيريا نظام إصلاح فائق الكفاءة يعيد ترتيب الشريط الوراثي قطعةً قطعة، مستعينًا بعدّة نسخ احتياطية من الجينوم تكون مخزنة داخل الخلية.

زد على ذلك، أن جينوم هذه البكتيريا يكون مكدّسا بإحكام ضمن بنية حلقية، وهو ما قد يُساهم في تثبيت نهايات الحمض النووي المتضررة معًا أثناء عملية الإصلاح، ويزيد من احتمالية إعادة البناء بدقة. كما أن التركيزُ العالي الذي تحتويه من عنصر المنغنيز وغيره من البروتينات، يشكل درعًا كيميائيًّا يحمي من الأكسدة المضرة.

ومن اللافت الإشارة إلى أن نقل أحد الجينات المرتبطة بالمقاومة من بكتيريا إلى أخرى لا يُكسبها نفس القدرة على التحمّل، مما يُثبت تعقيد هذا النظام وكونه نتاج شبكة جينية وكيميائية متكاملة، وليست خاصيّة يُمليها عنصر واحد فقط، تُشكّل مجتمعة طريقا إلى بر الأمان لكي تواصل الخلية حياتها كأن شيئًا لم يكن. 

-عندما تتمنى أن تكون بكتيريا في عالم على شفيرة حرب عالمية ثالثة :)

خطوات نحو التعديل الوراثي

حتى وقت قريب، كان تعديل جينات ديونوكوكوس راديودورانز لأغراض هندسية صناعية أمرًا صعبًا،  ويعزى ذلك إلى نقص الأدوات المناسبة. لكن في عام 2022 تغير الوضع عندما طوّر فريق بحثي نظامًا يعتمد على الاقتران البكتيري.

مكّن هذا النظام الباحثون من إدخال جينات صناعية وتحقيق استقرارها داخل جينوم البكتيريا، بل واستطاعوا استنساخ بلازميد —وهو جزيء DNA دائري صغير يوجد في البكتيريا ويُستخدم كأداة لنقل الجينات—. 

تُعد هذه الخطوات قفزة نوعية في مجال التكنولوجيا الحيوية، الذي يركّز على إيجاد حلول باستخدام أحياء دقيقة لمشاكل تتطلب تحمّل الظروف القاسية. حيث يمكن استخدام البكتيريا المهندسة كـ "حامل حي" لخواص أحياء دقيقة أخرى، وبهذا تكون قادرة على أداء وظائف حيوية في بيئات لا تتحمّلها الكائنات الأخرى بطبيعتها.

وكما أشرنا مسبقًا إلى أن نقل جين مفرد من هذا البكتيريا إلى كائن آخر لا يكفي لمنحه القدرة على مقاومة الإشعاع، لذلك فإن الدراسات توجهت إلى تطوير أدوات تمكّن من تعديل هذا الكائن نفسه واستخدامه كمنصة صناعية مستقلة بدلاً من محاولة نسخ خصائصه إلى كائنات أخرى.

التطبيقات البيوتكنولوجية: من تنظيف النفايات إلى الفضاء

نظرًا لخواصها الفريدة، تُجرى دراسات مكثفة على هذه البكتيريا المقاومة للإشعاع لاستخدامها في تنظيف النفايات النووية، خاصة في البيئات الملوثة بالمعادن الثقيلة المشعة أو المذيبات العضوية. 

إذ أظهرت السلالات المعدلة جينيًا، قدرة على البقاء على قيد الحياة في مستويات إشعاعية مرتفعة جدًا والعمل على إزالة السموم من هذه المواقع المشعة.

ففي دراسة حديثة نُشرت عام 2024، تم إدخال جين مسؤول عن إنتاج حمض الستريك إلى البكتيريا، وهو ما سمح لها بتحمل نسبة أعلى من أيونات الألمنيوم السامة (Al³⁺)، التي تتواجد عادة في الترب الحمضية الملوثة باليورانيوم. كما أن هذه النسخة المعدلة من البكتيريا المقاومة للإشعاع كانت أكثر قدرة على امتصاص أو تثبيت اليورانيوم داخل خلاياها، مقارنة بالسلالة غير المعدلة.

كما تحظى هذه البكتيريا باهتمام كبير في مجال الأستروبيولوجيا ـ دراسة الحياة في الفضاءـ ، حيث تُستخدم كنموذج لفهم خواص الحياة في الفضاء أو على سطح المريخ. إذ قامت كل من وكالة ناسا وغيرها من الشركات بتجارب مختلفة على متن محطة الفضاء الدولية، وذلك لدراسة سلامة الحمض النووي للديونوكوكوس، على المدى الطويل وتحت تأثير الإشعاع الكوني.

وأخيرًا أثبتت البكتيريا  ديونوكوكوس راديودورانز، أنّ الكائنات الحية قادرة على التكيف بأشكال لا يمكن تخيّلها. فهذه البكتيريا التي كانت يومًا مجرد "غرابة علمية"، أصبحت اليوم حجر أساس في مشاريع الهندسة الحيوية والتنظيف الإشعاعي واستكشاف الفضاء.


احصل على إشعار لكل مقال جديد!