ما فوق الجينات: هل تُورَّث صدماتنا عبر الأجيال؟

ما فوق الجينات: هل تُورَّث صدماتنا عبر الأجيال؟

حيوية | March 22, 2025 بواسطة أميرة خليل

أميرة خليل
أميرة خليل
منذ شهر
مشاركة:
ما فوق الجينات: هل تُورَّث صدماتنا عبر الأجيال؟

رغم أن التوائم المتطابقين يتشاركون جينومًا واحدًا، إلا أن تعرضهم لبيئات مختلفة يؤدي إلى اختلافات واضحة في صحتهم وسلوكهم، بل وحتى في قابليتهم للإصابة بالأمراض. وهذا يشير إلى أن هذه الفروقات لا تعود إلى الجينات نفسها، بل إلى التأثيرات البيئية. ولكن كيف يمكن للبيئة أن تؤثر بعمق على عمل الجينات دون تغيير تسلسل الحمض النووي؟ الإجابة تكمن في علم ما فوق الجينات أو الوراثة فوق الجينية (Epigenetics).
كشفت الأبحاث الحديثة عن وجود طبقة خفية من التحكم تُعرف بعلم ما فوق الجينات، وهو مجال يدرس كيف تؤثر العوامل البيئية والتجارب الحياتية على نشاط الجينات دون تغيير التسلسل الأساسي للحمض النووي. يتم ذلك من خلال تفاعلات كيميائية مع الحمض النووي أو البروتينات الداعمة له، مما يحدد كيفية قراءة الجينات وترجمتها داخل الخلية. وتؤدي هذه العمليات إلى تنشيط بعض الجينات أو تعطيلها استجابةً لاحتياجات الخلية وظروفها البيئية.
في هذه المقالة سنتكلم عن كيف تعمل التعديلات فوق الجينية، وما هو دورها في الصحة والأمراض، بالإضافة إلى دور الصدمات والتجارب الحياتية في إعادة برمجة الجينات وانتقالها عبر الأجيال، مستندين إلى دراسات علمية حديثة متعلقة بالتجربة السورية.

كيف تحدث التعديلات فوق الجينية؟

فكّر في الحمض النووي كسلسلة طويلة ملتفة بإحكام حول نفسها، للوصول إلى أي جزء منه وقراءته، تحتاج إلى مفتاح. لكن المفاجأة أن كل جزء مقفل بطريقة مختلفة، ويتطلب مجموعة خاصة من المفاتيح لفتحه.
على عكس ما قد نتخيله، فإن التعبير الجيني (Gene expression)، أي عملية ترجمة وتحويل الحمض النووي إلى بروتينات، ليس عمليةً تلقائية أو مباشرة. فليست جميع الجينات في الحمض النووي متاحة للقراءة والاستخدام في كل الأوقات، بل تخضع هذه العملية لتنظيم دقيق يتماشى مع احتياجات الخلية وظروفها المختلفة.

الحالات المختلفة للحمض النووي: مغلق أم مفتوح؟

الحمض النووي يمكن أن يوجد في حالتين رئيسيتين: الحالة المغلقة (Heterochromatin)، حيث يكون ملفوفًا بإحكام مما يمنع وصول الإنزيمات إليه، ويؤدي ذلك إلى إسكات الجينات الموجودة في هذه المناطق. وفي المقابل، هناك الحالة المفتوحة (Euchromatin)، حيث يكون الحمض النووي مفرودًا بشكل يسمح للإنزيمات بالوصول إليه وقراءته بسهولة، مما يجعله نشطًا.
لكن كيف تتحكم الخلية في تحويل الحمض النووي بين هاتين الحالتين؟ هنا يأتي دور البروتينات والجزيئات الكيميائية في التعديلات فوق الجينية. هذه التعديلات تؤثر على طريقة التفاف الحمض النووي حول البروتينات ومدى انفتاحه أو إغلاقه، مما يحدد الجينات التي سيتم تفعيلها أو تثبيطها.

مثيلة الحمض النووي: آلية إسكات الجينات

واحدة من أهم الآليات التي تتحكم في التعبير الجيني هي مثيلة الحمض النووي (DNA Methylation). حيث تضاف مجموعات الميثيل (-CH₃) إلى مناطق معينة من الحمض النووي بهدف تقليل أو تثبيط التعبير عن بعض الجينات.

تعديلات الهيستونات: مفتاح آخر لتنظيم الجينات

بالإضافة إلى الحمض النووي نفسه، فإن الهيستونات، وهي البروتينات التي يلتف حولها الحمض النووي لتكوين الكروماتين، تخضع أيضًا لتعديلات كيميائية تؤثر على التعبير الجيني. من أهم هذه التعديلات:

دور علم ما فوق الجينات في فهم الأمراض وعلاجها

يساعد فهم التعديلات فوق الجينية في الكشف عن أسباب العديد من الأمراض، حيث يؤدي اضطراب عمليات التحكم في التعبير الجيني إلى اختلالات في وظيفة الخلايا. بعض هذه الأمراض تشمل السرطان، وأمراض المناعة الذاتية، والاضطرابات العصبية. تلعب التغيرات فوق الجينية، مثل مثيلة الحمض النووي، وتعديلات الهيستونات وغيرها دورًا في تفعيل الجينات المسرطنة—وهي جينات تحفّز النمو والانقسام غير الطبيعي للخلايا—أو في تثبيط الجينات الكابتة للأورام.
أحد أبرز الاكتشافات في هذا المجال هو أن العديد من التعديلات فوق الجينية قابلة للعكس (reversible)، أي يمكن إعادتها إلى حالتها الأصلية، مما فتح آفاقًا جديدة لتطوير علاجات تستهدف إعادة تنظيم التعبير الجيني. بناءً على ذلك، تم تطوير مثبطات إنزيمات مثيلة الحمض النووي (DNMTi) ومثبطات نزع أستلة الهيستونات (HDACi)، وهي أدوية تُستخدم لإعادة تنشيط الجينات الكابتة للأورام وكبح التعبير غير المنظم للجينات المسرطنة، مما يساعد في استعادة التوازن الجيني داخل الخلايا السرطانية.
بالإضافة إلى دوره في السرطان، يلعب علم ما فوق الجينات دورًا في العديد من الأمراض الأخرى، مثل الأمراض العصبية كالزهايمر وباركنسون، حيث تؤثر التغيرات فوق الجينية على التعبير الجيني للبروتينات المرتبطة بوظائف الدماغ. ومع التقدم المستمر في هذا المجال، يُتوقع أن تسهم هذه العلاجات في تحسين جودة الحياة ليس فقط بعلاج الأمراض المزمنة، ولكن أيضًا بالوقاية منها.

التجربة السورية: هل تترك الصدمات أثرًا دائمًا في الجينات؟

تشير الأبحاث إلى أن العوامل البيئية ونمط الحياة، مثل النظام الغذائي والتوتر، قد تؤدي إلى تعديلات فوق جينية موروثة، مما يؤثر على صحة الأفراد والأجيال القادمة. لكن هل يمكن أن يحمل طفل في حمضه النووي آثار حرب لم يعشها؟
كشفت دراسة حديثة عن بصمات فوق جينية للصدمات عبر ثلاثة أجيال من اللاجئين السوريين، حيث تم رصد تغييرات في مثيلة الحمض النووي(DNA Methylation) لدى أبناء وأحفاد الناجين من مجزرة حماة عام 1982 وأحداث الثورة السورية عام 2011. اعتمدت الدراسة على تحليل ثلاث فئات من التعرض للعنف: التعرض المباشر، التعرض قبل الولادة (عندما كانت الأم حاملًا)، والتعرض على مستوى الخلايا الجرثومية (عندما تعرضت الجدة للعنف قبل إنجاب أطفالها).
كشفت النتائج أن الأفراد في الأجيال الثلاثة، سواء تعرضوا للعنف بشكل مباشر أو لم يشهدوه بأنفسهم، أظهروا تغييرات فوق جينية في الحمض النووي، تحديدًا في الجينات المرتبطة بالاستجابة للتوتر والتكيف النفسي.
في الجيل الأول (الأفراد الذين تعرضوا للعنف بشكل مباشر)، رُصد 21 تغييرًا في مثيلة الحمض النووي. أما في الجيل الثاني (الأفراد الذين تعرضوا للصدمات وهم أجنة في رحم أمهاتهم)، تم تسجيل 14 تغييرًا في المواقع الجينية. والأمر اللافت أن الجيل الثالث، الذي لم يتعرض للصدمات بشكل مباشر ولكن كانت جداتهم قد اختبرن العنف قبل إنجاب أمهاتهم أو آبائهم، أظهر تغييرات مماثلة في أنماط المثيلة الجينية.
والأكثر إثارة للاهتمام أن هذه التعديلات لم تكن عشوائية أو فردية، بل اتبعت نمطًا متكرّرًا ومنهجيًا عبر الأجيال الثلاثة، مما يشير إلى استجابة بيولوجية منظمة وموَّرثة للصدمات تتجاوز كونها مجرد رد فعل مؤقت. كما وجدت الدراسة أن كلما زاد عدد الصدمات التي تعرض لها الشخص، زادت التغيرات الجينية، مما يعزز فكرة أن تأثير الصدمات يتراكم عبر الزمن، وليس مجرد استجابة قصيرة المدى.
تؤكّد هذه النتائج أن آثار الحروب لا تنتقل فقط عبر الذكريات، بل أيضًا عبر الجينات، حيث تترك بصماتها في المادة الوراثية، مما يؤثّر ليس فقط على من عاشوا تلك التجارب، بل يمتدّ تأثيره إلى ذريتهم. ويعزّز ذلك الحاجة إلى توفير دعم نفسي واجتماعي للأفراد المتأثرين، ليس لحمايتهم فحسب، بل أيضًا لحماية الأجيال القادمة من عبء موروث ثقيل.

الخاتمة

يكشف علم ما فوق الجينات عن جانب خفي لكنه جوهري في فهم علاقتنا بالبيئة والتجارب الحياتية، حيث لم تعد الوراثة مقتصرة على الحمض النووي وحده، بل إن الصدمات، ونمط الحياة، والعوامل البيئية قادرة على إحداث تغييرات وراثية. والأهم أن هذه التغيرات قد تكون قابلة للعكس، مما يفتح المجال لتطوير علاجات أكثر دقة للأمراض المزمنة والاضطرابات النفسية. كما تؤكد التجربة السورية أهمية تبني رؤية شاملة للصحة، تأخذ في الاعتبار التفاعل بين العوامل الوراثية، والبيئية، والتاريخية.

احصل على إشعار لكل مقال جديد!