
منذ بداية الخلق، والإنسان يصارع، والشعوب تقاتل بعضها دفاعًا عن حقوقها ومعتقداتها، وكلٌّ يؤمن بقضيته. حينها، حارب الإنسان بما توفر له من سلاح، من الحجر إلى السيف، وكانت الخسائر دائمًا ثقيلة ومحطّمة. لكن حروب هذا القرن باتت شديدة الوحشية ومفسدةً بأشكال لم يعهدها كوكبنا من قبل. بدأً من البنادق والقنابل المتفجرة إلى الأسلحة الكيماوية وصولاً للقنابل النووية.
الكثير يعتقد أن الحدود تحميه، وأن الحرب المجاورة لن تؤذيه. لكن ألم يرسم البشر هذه الحدود بأيديهم؟ هي في الواقع لا تعني شيئاً، فلن يردع الدمار البيئي خطوطًا وهمية من انتشاره. الحرب اليوم لا تدمّر فقط الشعوب التي تقع تحت القصف، بل تترك بصماتٍ مدمّرة على الكوكب بأكمله، مناخًا وصحةً و غذاءً.
في هذا المقال، نناقش كيف تدمر الحروب عالمنا كلّه من جذوره، لنكشف كم هو مترابط عالمنا، وكم هي صغيرة في الحقيقة هذه الأرض التي نظنها متباعدة، وكيف تغيّر الحروب مصير المناخ، وتلوّث الهواء والماء والتربة، وتُهدّد حياة أجيالٍ لم تختر الحرب ولم تُشارك فيها.
ما هي بصمة الحرب؟
البصمة الكربونية
لتعريف الآثار البيئية لنشاطٍ ما، يُستخدم مصطلح البصمة الكربونية (Carbon Footprint)، وهو مقياس يُعبّر عن إجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الناتجة عن نشاطات فرد أو مؤسسة أو دولة.
تشمل هذه الغازات: ثاني أكسيد الكربون (CO₂)، الميثان (CH₄)، أكسيد النيتروس (N₂O)، والغازات الصناعية مثل الهيدروفلوروكربونات. تعمل هذه الغازات على حبس الحرارة داخل الغلاف الجوي، مما يؤدي إلى ارتفاع حرارة الأرض وتغيّر أنظمتها المناخية. تُقاس البصمة الكربونية بوحدة تُعرف بـ طن مكافئ ثاني أكسيد الكربون (CO₂-eq)، أي ما يعادل تأثير الغازات الأخرى مقارنة بتأثير CO₂. فالميثان مثلًا، أقوى بنحو 25 مرة من الCO₂ في حبس الحرارة.
تنشأ هذه الانبعاثات بشكل رئيسي من حرق الوقود الأحفوري (الفحم، النفط، الغاز الطبيعي)، سواءً لإنتاج الطاقة أو تشغيل المركبات والطائرات. كما تسهم الأنشطة الزراعية، والنفايات، وتسربات الغاز في رفع الانبعاثات. ويُضاف إلى ذلك إزالة الغابات، التي لا تُفقدنا فقط خزّانات طبيعية لامتصاص الكربون، بل تجعل الأرض نفسها مصدرًا لانبعاثات إضافية. ما يجعل كل نشاط بشري يعتمد على الطاقة الملوثة، أو يُدمر الأنظمة البيئية، يُسهِم في ارتفاع البصمة الكربونية.
البصمة الكربونية للحروب
تتصدّر الحروب قائمة الأحداث ذات البصمة الكربونية الأعلى، فتتجلى فداحتها في قدرتها على تحطيم كل شيء دفعة واحدة: تحرق وتفجّر وتُشرّد، وتُلوّث الهواء والماء والتربة، وتُطلق كميات هائلة من الانبعاثات دون أن تُسجّل أو تُحاسب. وتتكوّن هذه البصمة الكربونية من مصادر متعددة تشمل احتراق الوقود في الآليات والطائرات والصواريخ، والحرائق، وتسرب المواد السامة، وتدمير البنية التحتية، والنزوح الجماعي الذي يفرض استهلاكًا إضافيًا للموارد. كما أن إعادة الإعمار، التي تبدو في الظاهر خطوة إيجابية، تتطلب كميات هائلة من الطاقة والمواد، فتضيف انبعاثات قد تفوق تلك التي سبّبها القصف ذاته.
وتُعدّ الجيوش في حالة السلم والحرب من أكبر المستهلكين للوقود الأحفوري. فحركة الجنود، وتشغيل الدبابات والطائرات والسفن، واختبار الأسلحة وتفجيرها، كلها عمليات عالية الانبعاثات. ومع ذلك، تظل الأرقام الدقيقة لهذه الانبعاثات غائبة في أغلب الأحيان، لأن الجيوش لا تُلزم بالكشف عن بصمتها الكربونية. ففي عام 1997، بضغطٍ من الولايات المتحدة جرى استثناء الانبعاثات العسكرية من القيود المناخية ضمن اتفاقية كيوتو ، لتبقى تقارير الجيوش بشأن انبعاثاتها طوعية حتى يومنا هذا. وعند تحليل البيانات التي تُقدَّم للأمم المتحدة (UNFCCC)، وُجد أن عددًا قليلًا فقط من الدول ينشر الحدّ الأدنى من البيانات، فيما تمتنع دول كبرى تمتلك جيوشًا ضخمة عن الإفصاح تمامًا.
ورغم هذا الغياب في الشفافية، تشير التقديرات إلى أن النشاطات العسكرية تُشكّل نحو 5.5% من مجمل الانبعاثات العالمية من غازات الاحتباس الحراري سنويًا. ولو اعتبرنا الجيوش كياناً واحداً، فستكون رابع أكبر ملوّث عالميًا، بعد الصين والولايات المتحدة والهند. وهذا الرقم لا يشمل حتى الانبعاثات الناتجة عن النزاعات النشطة، التي تُحدث طفرات حادة في مستويات التلوّث.
روح الروح غزّة: الإبادة الكوكبية
شهد الشرق الأوسط خلال القرن الماضي حروبًا، أو في قول أصح مجازر، فمعظمها لم يكن مواجهات بين أطراف متساوية، بل انتهاكاتٍ وهجماتٍ إرهابية لا تُعدّ ولا تُحصى. وآخرها وأكثرها فظاعةً وبشاعةً، الإبادة الجماعية المستمرة في غزة مباشرةً أمام أعين ومرأى الملايين. فقد حصدت هذه الحرب حتى الآن أرواح ما يزيد عن 58,000 فلسطيني، ودمّرت ما بين 54-66% من المباني والمنشآت في غزّة (في تقديرات بتاريخ 30 مايو 2025)، ولا زال القصف مستمر مع فاجعة التجويع والحصار المحيطة بأهل غزّة اليوم. حجم الخراب والفساد الناتج لا يمكن إحصاؤه بدقة، لا على صعيد الخسائر البشرية و لا على مستوى الدمار الكوكبي.
بدأت التساؤلات العالمية حول البصمة الكربونية للحروب بعد الحرب الروسية الأوكرانية، حيث طُوّرت أساليب جديدة لرصد التدهور البيئي المرتبط بالنزاعات واحتساب الانبعاثات الناتجة عنها بدقة أكبر. وفي محاولة أولى لتقدير التأثير البيئي الكارثي للحرب على غزّة، تم تحليل الانبعاثات الناتجة عن ثلاث فترات: الأنشطة العسكرية السابقة، فترة الحرب الممتدة من أكتوبر 2023 حتى يناير 2025، وفترة إعادة الإعمار المتوقعة.
تشير التقديرات إلى أن الأنشطة الحربية المباشرة وحدها تسببت في إطلاق نحو 1.89 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون (tCO₂e)، أكثر من 99% منها تعود إلى قصف الاحتلال واجتياحه البري، بينما لا تتعدى مساهمة حركة المقاومة نسبة 0.2% فقط.
وتشير التفاصيل إلى أن 30% من هذه الانبعاثات تعود للشحن الأمريكي لنحو 50,000 طن من الأسلحة إلى الجيش المحتل، بينما نُسب 20% منها إلى عمليات الاستطلاع والقصف الجوي الإسرائيلي، إضافة إلى الانبعاثات الناتجة عن تشغيل الدبابات والمركبات العسكرية، وتصنيع وتفجير القنابل والمدفعية.
أما عند توسيع التقديرات لتشمل فترة ما قبل الحرب وفترة إعادة الإعمار المتوقعة، فإن إجمالي الانبعاثات يتجاوز 32 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، أي ما يعادل الانبعاثات السنوية لأكثر من 102 دولة.
إن التكلفة المناخية طويلة الأمد لهذه الإبادة الجماعية لا تقف عند حدود غزّة وحدها، بل تمتد إلى الكوكب كله. فالدراسة تبيّن أن ما أطلقته هذه الحرب من غازات دفيئة يعادل شحن 2.6 مليار هاتف ذكي أو تشغيل 84 محطة طاقة غازية لمدة عام. فكيف نسكت وشعب يُباد، وأرض تُستباح، والكوكب كلّه يُدمّر؟
الانبعاثات الكربونية وتغيُّر المناخ
الانبعاثات الكربونية الناتجة عن أي نشاط تؤثر بشكل مباشر على المناخ، فتُسهم في تعزيز ظاهرة الاحتباس الحراري مسببةً اضطرابات طويلة الأمد في البيئة.
ورغم أن تأثير هذه التغيرات قد لا يبدو ملموسًا بشكل فوري في حياتنا اليومية، إلا أن تراكمها يترك آثارًا صحية وبيئية خطيرة، مثل موجات الحر، وتراجع المحاصيل، وازدياد الأمراض المرتبطة بالتلوث.
في السياق الطبيعي، يتغير المناخ تدريجيًا على مدى ملايين السنين، لكن الانبعاثات الكثيفة الناتجة عن الأنشطة البشرية تُسرّع هذه العملية بمعدلات غير مسبوقة.
كيف تتسبب الانبعاثات الكربونية في الاحتباس الحراري؟
تأتي أشعة الشمس إلى الأرض حاملةً معها الضوء والطاقة الحرارية. يُعكس نحو 30% منها مباشرة إلى الفضاء، بينما يُمتص الباقي (حوالي 70%) من قبل سطح الأرض والغلاف الجوي. بعد أن يمتص سطح الأرض هذه الطاقة، يُعيد إطلاقها نحو الغلاف الجوي على شكل أشعة تحت حمراء، وهي موجات حرارية غير مرئية. في الحالة الطبيعية، تعود هذه الأشعة إلى الفضاء، لكن جزءًا منها يُمتص من قِبل الغازات الدفيئة الموجودة في الغلاف الجوي، مثل بخار الماء وثاني أكسيد الكربون (CO₂). تقوم هذه الغازات بإعادة توجيه الأشعة تحت الحمراء في جميع الاتجاهات، بما في ذلك نحو سطح الأرض، مما يُساهم في الحفاظ على درجة حرارة معتدلة في ظاهرة تُعرف بظاهرة الدفيئة(greenhouse effect).
ولكن الزيادة الكبيرة في تركيزات غازات الدفيئة في الغلاف الجوي تُضخّم من تأثير احتباس الحرارة، إذ تمتص الغازات كميات أكبر من الأشعة تحت الحمراء وتُعيد إشعاعها نحو الأرض، مما يؤدي إلى احتباس حرارة إضافية في الغلاف الجوي السفلي. هذا الاحتباس الحراري غير الطبيعي هو ما يُعرف بتغير المناخ، ويُسبب اختلالات واسعة النطاق في النظم الطبيعية.
تأثير التغيُّر المناخي على العالم
لم يعد التغير المناخي مجرد توقعات مستقبلية، بل أصبح واقعًا ملموسًا ينعكس في ظواهر تُوصَف بأنها طبيعية، لكنها في الحقيقة من صنع البشر.
اختلال الطقس
ارتفاع درجات الحرارة لا يعني فقط طقسًا أكثر حرارة، بل يؤدي إلى اختلالات مناخية شاملة. فقد سُجّلت العقود الأخيرة كالأشد حرارة في التاريخ. ومع تزايد درجات الحرارة، تتكرّر موجات الحر وتطول فترات الجفاف، كما تزداد حرائق الغابات شدة وتكرارًا. فقد شهدت أجزاء من جنوب أوروبا وشمال إفريقيا خلال صيف 2023 درجات حرارة غير مسبوقة، منها 48.2° مئوية في إيطاليا و50.4° في أغادير بالمغرب.
كذلك شهد العالم تصاعدًا غير مسبوق في حرائق الغابات، أبرزها في كندا التي سجّلت 14.9 مليون هكتار من الأراضي المحروقة، إضافة إلى حرائق مدمّرة في كاليفورنيا، وسوريا، واليونان، وتركيا، والبرازيل، بفعل ظروف مناخية حارة وجافة ساهمت في انتشار النيران.
في نفس الوقت، شهدت مناطق أخرى هطول أمطارٍ غزيرة، وحدوث فيضانات مفاجئة، وعواصف أكثر عنفًا. كما يُسهم ذوبان الجليد في القطبين في ارتفاع مستوى سطح البحر، مما يُهدد بغمر المناطق الساحلية المنخفضة.
في سبتمبر من عام 2023، ضربت عاصفة "دانيال" (Daniel) مناطق واسعة من اليونان وبلغاريا وليبيا وتركيا، وكانت من أشد العواصف فتكًا في تاريخ البحر الأبيض المتوسط. تسببت في أمطار غزيرة وفيضانات كارثية، خاصة في مدينة درنة الليبية، التي اجتاحتها السيول بعد انهيار سدَّيها. وأسفرت الكارثة عن مقتل ما لا يقل عن 4,700 شخص في ليبيا، مع آلاف المفقودين، إضافة إلى سقوط عشرات الضحايا في اليونان وبلغاريا.
وقد عزز ارتفاع درجات حرارة مياه البحر الأبيض المتوسط من قوة العاصفة وغزارة أمطارها، مما يؤكد ارتباط هذه الظواهر المتطرفة باختلالات المناخ الناتجة عن التغير المناخي العالمي.
الزراعة والصحة
الزراعة من أكثر القطاعات تأثرًا بالتغير المناخي. ارتفاع درجات الحرارة، وتغير أنماط الأمطار، وزيادة الظواهر الجوية المتطرفة، جميعها تؤدي إلى انخفاض المحاصيل، وتدهور جودة التربة، وتقلّص المواسم الزراعية.
في بعض المناطق، يُجبر تغيّر المناخ المزارعين على تغيير أنواع المحاصيل أو التخلي عنها بالكامل، ما يهدد الأمن الغذائي ويزيد من الاعتماد على الاستيراد.
أما من الناحية الصحية، يُسهم تغيّر المناخ في انتشار نواقل الأمراض، كالبعوض الذي ينقل الملاريا وحمى الضنك، إلى مناطق جديدة. كما يزيد من الوفيات الناجمة عن الإجهاد الحراري، ويُفاقم أمراض القلب والأوعية الدموية. وتؤدي الفيضانات وتلوّث المياه إلى تفشي أمراض مثل الكوليرا والإسهال الحاد. كذلك، يؤدي تلوث الهواء الناتج عن الحرائق والانبعاثات إلى تفاقم أمراض القلب والجهاز التنفسي.
وبينما يؤكد العلماء أن التغيُّر المناخي وما يترتب عليه من كوارث قابل للعكس ويمكن تجنب تفاقمه عبر خطوات جادة ومستدامة، تستمر القوى المسيطرة على الكوكب في نشر الفساد والخراب بدعوى الإصلاح والتخلص من الإرهاب.
تسمّم الهواء العالمي
ليست التفجيرات مجرد دمار لحظي في موقعها، فهي تُطلق في الجو كميات هائلة من المواد السامة التي تؤثر بشكل مباشر على صحة الإنسان والبيئة. تشمل هذه المواد الجسيمات الدقيقة (PM2.5 وPM10)، والغازات السامة مثل ثاني أكسيد النيتروجين (NO₂)، أول أكسيد الكربون (CO)، وأكاسيد الكبريت (SO₂). هذه الملوّثات لا تلتزم بالحدود الجيوسياسية، حيث أنها ترتفع إلى طبقات الجو العليا، ويمكنها الانتقال مع الرياح إلى مناطق تبعد آلاف الكيلومترات.
الانبعاثات السامة الناتجة عن الحروب تلوّث منطقة النزاع بالكامل، مسببة أمراضًا تنفسية، واختناقًا، واضطرابات مزمنة في القلب والرئة. لكن إلى أي مدى يمكن لهذه السموم أن تسافر؟ في دراسة نُشرت عام 2000، وُثّق انتقال المركبات العضوية شبه المتطايرة (SVOCs) الناتجة عن قصف كوسوفو عام 1999 إلى الأراضي اليونانية، رغم بُعد المسافة بينهما.
ورغم محدودية الأبحاث التي تربط مباشرةً بين الحروب المحلية وتدهور جودة الهواء عالميًا، فإن هناك دراسات بيئية أثبتت أن الملوّثات الهوائية الناتجة عن النشاطات الصناعية يمكن أن تنتقل آلاف الكيلومترات. وبالقياس على ذلك، من المرجّح أن تتسبب الحروب واسعة النطاق، مثل الحرب على غزّة، في تلوّث الهواء في الدول المجاورة، بما فيها مصر ولبنان والأردن. كما أن الأراضي الفلسطينية المحتلة نفسها قد تُصبح ثاني أكثر المناطق تضررًا بعد غزّة، بفعل اتجاهات الرياح والموقع الجغرافي.
حين تتكرّر الحرب، ينهار الكوكب
مع تكرار الحروب، يتهاوى كوكبنا شيئًا فشيئًا. وما نشهده اليوم من صمت عالمي يكشف لنا أن الاهتمام بالقضايا البيئية انتقائي، يُثار فقط حين لا تمسّ مصالحهم، وفي المواضيع التي لا تُحرجهم. فبينما تُنفق المليارات على تطوير الطاقة المتجددة وتنظيف المحيطات، تُهدر في المقابل مليارات أخرى على الدمار والقتل والتخريب. فأيهما أشدّ خطرًا: عبوات البلاستيك التي تطفو في البحر؟ أم القنابل التي تمطر الأرض نارًا وسمومًا؟
إن القضية البيئية، في جوهرها، قضية إنسانية؛ فلا يمكن فصل سلامة الكوكب عن كرامة الإنسان. وفي النهاية، مهما تضاعفت وتزايدت وتفاقمت الأزمات البيئية فإنها لا تُقارن بذرة من الدم الذي يسال والأرواح التي تستباح.