
إذا اعتبرنا الطبيعة كتابًا عظيمًا يروي لنا قصص الكائنات الحية، فلا شك أن الفطريات ستكون من أغرب وأمتع فصول ذلك الكتاب. فمن منا لم يشاهد أفلام الزومبي في صغره؟ تلك الأفلام التي تصوّر البشر كائنات نصف حيّة ونصف ميتة، تتحرك ببطء وبخطى مترنحة لتلتهم ما تبقّى من الكائنات الحية، مدفوعة بغريزة عمياء، لا عقل لها.
حسنا، الواقع ليس بعيدًا كثيرًا عن تلك الأفلام!
تبدأ الحكاية مع الفطر...
لدى الفطريات طرق عديدة للتكاثر؛ فهي أحيانًا تتكاثر بذاتها، وأحيانا تعتمد على مضيف تعيش حياتها داخله كطفيلي يأبى الخروج. ولكن بعض الأنواع تفوّقت على دور الطفيلي تستمتع بتحويل ناقلها إلى زومبي لتسلبه إرادته وتتحكم في عقله. أحد أشهر هذه الأنواع هو Ophiocordyceps، فطر يقوم بتحويل النمل (وأحيانًا الدبابير والعناكب) إلى كائنات زومبي تساعده في التكاثر والبقاء. فكيف يفعل ذلك؟
تحتاج الفطريات إلى عدة شروط للبقاء، منها: بيئة غنية بالأوكسجين، ورطوبة عالية، ومصدر للكربون، وآخر للنيتروجين (تحصل عليه غالبًا عبر امتصاص مياه الأمطار)، ودرجة حرارة متفاوتة لكن بالغالب تميل للاعتدال والعديد من الخواص الأخرى وحتى المتغيرة في بعض الوقت. لكن السؤال هو، أين قد تجد الفطريات بيئة كهذه؟
مفتاحها الجهاز العصبي!
إن كنت قد خمنت أن الأشجار هي البيئة الأنسب لنمو الفطريات، فقد أصبت تمامًا. ولهذا السبب تحديدًا، تقوم فطريات Ophiocordyceps بإفراز مركبات حيوية شبيهة بمادة Aflatrem، وتنقلها إلى النملة، ثم تبدأ في النمو داخلها كطفيلي يعيش من خلاله إلى أن تسيطر عليها بالكامل.
تُصنَّف مادة Aflatrem ضمن السموم الفطرية الترموجينية، وهي من المركبات المعروفة بتسببها بمتلازمة الرعاش لدى الأبقار والحيوانات المخبرية، إذ تُعد مادة سامة للجهاز العصبي، حيث يقتصر نشاطه على الجهاز العصبي نفسه لا على الخلايا. الأمر الذي يعطينا استنتاجا بأن المواد المسببة للرعشة تخل بالعمليات الكيميائية الحيوية المرتبطة بإفراز الناقلات العصبية. ومع ذلك، فإن هذا الاستنتاج يستند إلى أدلة غير مباشرة أو قطعية إلى الآن.
بعد أن تُحكم الفطريات سيطرتها، تقوم بإبعاد النملة المصابة عن المستعمرة، ثم تدفعها إلى الصعود نحو الأشجار والتمركز في نقطة عالية تضمن للفطر بيئة مثالية للحصول على الغذاء، وفي الوقت نفسه تمكّنه من نشر أبواغه للتكاثر، وجذب المزيد من ضحايا النمل لتحويلهم إلى زومبي.
كيف تتم السيطرة على النمل؟
في دراسة علمية حديثة، حاول الباحثون رصد طبيعة التأثير الذي تُحدثه مادة Aflatrem في النمل، وقياس مدى شدّته. وقد لوحظ أنه كلما زادت الجرعة، أمضى النمل وقتًا أطول في الاستراحة، وازدادت حركتهم بطئًا، إلى جانب ازدياد ترنحهم أثناء المشي. وفي نتيجة مشابهة لما يحدث عند الإصابة بالفطر، نستطيع القول أن هذه المادة تُحكم سيطرتها على الجهاز العصبي المركزي للنملة، وتمكث داخلها محاوِلة التأقلم مع بيئتها الداخلية والتحكم فيها.
لكن النتيجة الأكثر تشويقًا هي أنه تم رصد تغييرات واضحة في التعبير الجيني لدى النمل، حيث تم تسجيل تغيّر في 261 جينا، 113 منها تأثرت مباشرة بالفطر، وغالبًا ما تم تثبيطها. بعض هذه الجينات مسؤول عن إرسال الإشارات العصبية من الدماغ إلى العضلات، أي أن له دورًا مباشرًا في الوظائف الحركية، بينما يرتبط بعضها الآخر بحواس النملة مثل الشم وغيرها. ومن بين الجينات التي تم تثبيطها أربع جينات رئيسية مسؤولة عن البروتينات المرتبطة بالروائح (OBPs)، وهي: OBP19a، وOBP56a، وOBP69a.
وصحيح أننا أصبحنا اليوم قادرين على رصد هذه التغييرات الحاصلة في التعبير الجيني وفهم أسبابها المحتملة بدرجة أفضل، إلا أن الآلية الدقيقة التي يحدث بها هذا التحوّل لا تزال مجهولة حتى الآن.