
قبل اندلاع الثورة السورية، شكّل قطاع الزراعة حوالي ربع الاقتصاد السوري، جاعلاً إياه العمود الثاني للاقتصاد وذلك بعد النفط. إلا أن هذا القطاع عانى الويلات في العقدين الماضيين، وذلك بدءًا من موجة الجفاف التي ضربت المنطقة الشرقية بين عامي 2006-2010 والتي تعد شريان الزراعة في سوريا، وما تبعها من سياسات الأسد المجحفة والتي استنفذت القطاع وعملت على تدهوره من كل الجوانب.
إن العمل على تعافي القطاع الزراعي وتحقيق الأمن الغذائي يُعد من أولويات المرحلة القادمة في سوريا. وعند الحديث عن توفير غذاء صحي على المدى الطويل، فإن التلوث الذي لحق بالتربة والمياه الجوفية في مختلف الأراضي السورية وخاصةً في العقد الأخير يعد من أكبر المشاكل التي تواجهها.
إذ أن انتشار مخلفات الحرب من صواريخ غير منفجرة وألغام ومختلف بقايا الأسلحة يؤدي إلى ترشُّح المواد الكيميائية والمعادن الثقيلة مثل الكادميوم، الزرنيخ، الرصاص وغيرها إلى داخل التربة و تراكمها وانتقالها إلى المياه الجوفية والمزروعات ومنه إلى الإنسان. وهو ما قد ينتج عنه أمراض سرطانية واضطرابات في الجهاز العصبي وضعف المناعة والعديد من التأثيرات السلبية على المدى الطويل.
نحاول في هذا المقال عرض بعض الطرق التكنولوجية المستخدمة لتنقية التربة، مع التطرق لتجارب دول مختلفة في التعامل مع تربة احتوت ملوثات مشابهة لتلك التي ملأت الأراضي السورية. كما ننوه أن إجراء دراسات لتحليل التربة ومعاينة نسب المعادن والسموم التي تحتويها يعد من ضروريات المرحلة المقبلة، لاسيما أن البيانات المتوفرة حاليًا قليلة جدًا وتقتصر على أماكن معينة.
تقنيات معالجة التربة الملوثة
نظرًا لتعقيد أنواع الملوثات الناتجة عن الحروب المسلحة، تتطلب عملية التنقية استخدام تقنيات متعددة تجمع بين الحلول الكيميائية و الفيزيائية والتكنولوجية المتقدمة.
نستعرض هنا بعض التقنيات المعتمدة عالميًا لمعالجة التربة المتضررة، مع التأكيد على أن اختيار الحلول الملائمة للسياق السوري يتطلب أولًا إجراء دراسات ميدانية دقيقة لتحليل طبيعة التلوث وحجم الدمار البيئي، بما يضمن فعالية المعالجة واستدامتها.
العناصر السامة التي تجاوزت الحد الآمن في تربة شمال غرب سوريا نتيجة مخلفات الحرب:
1. التصليب/التثبيت (Solidification/Stabilization)
تُعد هذه التقنية واحدة من أكثر الطرق استخدامًا لمعالجة التربة، وذلك عن طريق إضافة مواد تعمل على تثبيت المعادن الثقيلة والحد من انتشارها وجعلها غير مضرة بالبيئة.
وهي تقوم على:
- تنفيذ دراسة تمهيدية لمعرفة العمق الذي تتواجد فيه هذه الملوثات، وتقييم حجم الكمية المضافة إلى التربة ودراسة عوامل أخرى.
- اختيار مادة مناسبة كالأسمنت أو الرماد، وذلك اعتمادًا على نوع التربة والملوثات التي تحتويها.
- خلط المادة مع التربة بحيث ترتبط المادة المضافة بالملوث (مثل الرصاص أو الكادميوم) وتقوم بتغليفها، مما يغير من خواصه الفيزيائية ويقلل من قابليته للترشح والنفاذ إلى التربة والمياه الجوفية مثبتًا إياه في مكانه. مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه العملية لا تقلل من سمية المواد، لكنها تحدّ من انتشارها.
استخدمت هذه التكنولوجيا في أماكن عدة مثل الولايات المتحدة، وبريطانيا، والصين، للتخلص من المعادن الثقيلة مثل الرصاص، والكادميوم، والزنك، وغيرها. كما يمكن استخدامها لمعالجة التربة التي تحتوي على مواد إشعاعية.
2. الحفر والإزالة إلى مطمر (Excavation & Landfilling)
تعتمد هذه الطريقة على إزالة التربة الملوثة بالكامل من موقعها ونقلها إلى مواقع مخصصة لاحتوائها وتخزينها حتى تتوافر الظروف المناسبة لمعالجتها أو تصديرها للخارج.
وتشمل مراحل تنفيذها:
- دراسة حالة التلوث لتقدير مدى الحاجة إلى التخزين المؤقت أو المعالجة الدائمة.
- حفر الموقع الذي تم تحديد تلوثه مسبقًا، بهدف عزل التربة الملوثة.
- نقل التربة إلى مطامر مخصصة وآمنة لتخزينها بعيدًا عن المناطق السكنية.
- الأخذ بعين الاعتبار أن هذه العملية تركز على عزل التربة الملوثة أكثر من معالجتها بشكل مباشر وتُعد خيارًا فعالًا في حالات التلوث الشديد أو التلوث الإشعاعي.
وقد استخدمت هذه الطريقة في العراق، حيث استعملت القوات الأمريكية اليورانيوم المنضب أكثر من مرة، وهو أحد أسلحة الدمار الشامل التي لها آثار مدمرة على البيئة والإنسان. وتشير التقديرات إلى أنه تم إلقاء ما بين 1100 إلى 2200 طن من اليورانيوم المنضب عام 2003 فقط، أي ما يعادل أثر 250 قنبلة نووية صغيرة من حيث الإشعاع.
عملت العراق بالتعاون مع الأمم المتحدة وأمريكا وعدة منظمات أخرى منذ عام 2003 إلى ما بعد 2013 على دراسة مواقع التربة الملوثة وحددت أكثر من 300 موقع في أنحاء مختلفة من البلاد، وكان الهدف الأساسي هو إبعاد التربة الملوثة عن المناطق السكنية لتقليل خطرها.
كما يمكن لسوريا أن تستفيد من هذه التجربة، خاصةً بعد القصف الذي تعرضت له أراضيها في عام 2015 باستخدام اليورانيوم المنضب.
3. أنظمة النانو المركبة (Nanocomposites)
تقوم هذه التقنية على فكرة بسيطة تشمل دمج جسيمات نانوية صغيرة جدًا مع مواد أخرى طبيعية أو صناعية لزيادة قدرتها على جذب الملوثات والتخلص منها فيما بعد. يمكن تشبيهها بلغم يعمل لاصطياد الملوثات في التربة لكن دون أن ينفجر.
تعتمد هذه الطريقة على:
- استخدام جسيمات نانوية قوية مثل أكاسيد الحديد أو ثاني أكسيد التيتانيوم، التي تستطيع التقاط المعادن السامة أو المواد الكيميائية الخطيرة من التربة.
- وتدمج هذه الجسيمات مع مواد مساعدة مثل الكربون المنشط (المعروف بقدرته العالية على الامتصاص) أو مع أنواع خاصة من البوليمرات، جاعلاً إياها أكثر ثباتًا وانتشارًا داخل التربة، فيزيد ذلك من فاعليتها في التقاط الملوثات ومنع انتقالها إلى المياه الجوفية أو النباتات.
- بعد إضافة الجسيمات النانوية إلى التربة، يمكن التعامل معها بطريقتين، وذلك بحسب نوع المواد المستخدمة وخطة المعالجة:
في بعض الحالات، تُترك هذه الجسيمات النانوية في التربة، حيث تكون مصممة لحبس الملوثات بشكل آمن ودائم دون أن تسبب أي ضرر مستقبلي، مما يجعل العملية أبسط وأقل تكلفة.
أما في حال كانت الملوثات المحتجزة خطيرة أو قابلة للتغيير مع مرور الزمن، فيُفضّل استخراجها من التربة بطرق خاصة، مثل الغسل بسوائل معينة، أو باستخدام مغناطيس قوي إذا كانت الجسيمات تحتوي على مواد مغناطيسية كأكاسيد الحديد.
تُعتبر الصين من الدول الرائدة في تطبيق تقنيات النانوتكنولوجي والمعالجة الحيوية على مستوى ميداني لمعالجة التربة الملوثة، حيث استخدمت الصين جسيمات الحديد النانوية (nZVI) والنانو-هيدروكسي أباتيت لتنقية التربة من المعادن الثقيلة مثل الرصاص والكادميوم.
تنقية التربة السورية: مسؤولية دولية لاستعادة الحياة بعد الحرب
إن مستقبل الزراعة السورية مرتبط ارتباطًا مباشرًا بإرادة سياسية قوية، ورؤية علمية دقيقة، ودعم دولي حقيقي لبرامج تنقية التربة. إن العمل على ترميم التربة السورية اليوم، هو استثمار مباشر في الغذاء، والصحة، والاستقرار الاقتصادي للأجيال القادمة.
وقد نبّهت منظمة الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) في أكثر من مناسبة إلى خطورة تلوث التربة الناتج عن مخلفات الحرب. وأكد محمد سامي المحمد، أحد أعضاء الخوذ البيضاء، أن التعامل مع هذه القضايا يتطلب جهودًا علمية كبيرة وتحاليل مخبرية متخصصة، مشيرًا إلى عدم وجود منظمات محلية تملك الإمكانيات الكافية لتحليل التربة الملوثة. وهو ما يسلط الضوء على حجم التحدي الذي يواجه سوريا اليوم: إذ لا يقتصر أثر الحرب على الدمار الظاهر، بل يمتد إلى أعماق الأرض، مهددًا صحة الإنسان والأمن الغذائي على المدى الطويل.
وأخيرًا فإن الأضرار التي لحقت بالتربة السورية جسيمة، والحقيقة أن التعافي لا يمكن أن يتم على أيدي الدولة السورية لوحدها ناهيك عن المزارعين فرادى، بل يجب أن يتم على مستوى دولي عالمي. فكما تشاركت عدة دول على حل صراعاتها وتجريب أسلحتها في الأراضي السورية فإن تنظيف وإعادة تأهيل هذه الأراضي يعد دين على عاتقها.