الملوثون الكبار : كيف تدمر الشركات الكبرى البيئة

الملوثون الكبار : كيف تدمر الشركات الكبرى البيئة

حيوية | April 23, 2025 بواسطة أميرة خليفة

أميرة خليفة
أميرة خليفة
منذ 5 أيام
مشاركة:
الملوثون الكبار : كيف تدمر الشركات الكبرى البيئة

مقدمة

لم يعد التلوث البيئي مجرد أزمة خارجية تحيط بنا؛ بل أصبح يتسلل حرفيًا إلى أجسادنا. ففي تطور علمي خطير، كشفت دراسة حديثة لأول مرة عن وجود الميكرو بلاستيك — وهي جزيئات بلاستيكية متناهية الصغر — في أنسجة الدماغ البشري. هذا الاكتشاف الصادم يؤكد أن التلوث البلاستيكي، الناتج عن ممارسات الشركات الكبرى تحول إلى تهديد مباشر لصحتنا. ومع ذلك، لا يزال الخطاب البيئي السائد يحمّل الأفراد وحدهم مسؤولية التغيير، متجاهلًا الجناة الحقيقيين: الملوثون الكبار الذين يجنون الأرباح بينما يدمرون الكوكب.

خلف الشعارات البيئية الجميلة مثل “الاستدامة” و”إعادة التدوير”، تكمن خدعة تسويقية خطيرة تُعرف بـ”الغسيل الأخضر” (Greenwashing). تستخدمها الشركات الكبرى لتلميع صورتها بينما تستمر في تلويث البيئة وجني الأرباح. تمامًا كما تُغسَل الأموال لإخفاء مصادرها، تُغسَل المسؤوليات البيئية من على أكتاف هذه الشركات، عبر حملات دعائية مصمّمة بعناية. لكن الواقع مختلف تمامًا: الممارسات الإنتاجية تظل كما هي: قائمة على الاستهلاك المفرط، والتلوث، وانعدام المحاسبة.

إن الانبعاثات الكربونية التي تُذيب الجليد، والنفايات البلاستيكية التي تخنق المحيطات، والمبيدات الكيميائية التي تفسد التربة وتلوّث مصادر المياه, ليست مجرد نتائج لسلوك المستهلك، بل هي نتائج مباشرة لنظام إنتاجي ملوث تتحكّم به شركات عملاقة، وتدعمه أنظمة اقتصادية بدون رقابة حقيقية.

في هذا المقال، نطرح تساؤلًا جوهريًا: هل يقع عبء الحد من التلوث البيئي فعلًا على عاتق الأفراد؟ أم أن المسؤولية الحقيقية تقع على عاتق ما يُعرف بـ “الملوثون الكبار”: الشركات التي تلعب دورًا محوريًا في تدمير البيئة، بينما تروّج لخطاب يحمّل الأفراد وحدهم المسؤولية.


🌍 من يلوّث الكوكب فعلًا؟

عند الحديث عن أسباب التلوث البيئي، يتبادر إلى الذهن دخان المصانع أو نفايات البلاستيك. لكن الحقيقة الأعمق أن جذور الكارثة تبدأ من الوقود الأحفوري: النفط، الفحم، والغاز الطبيعي — مصادر الطاقة التي تشغّل الاقتصاد الصناعي العالمي، ولكن بثمن فادح. فإن حرق الوقود الأحفوري يطلق كميات هائلة من الغازات الدفيئة التي تسهم بشكل مباشر في أزمة المناخ العالمية، مثل ذوبان الجليد، ارتفاع منسوب البحار، وازدياد الكوارث الطبيعية.

كشف تقرير صادر عن جهات تراقب التلوث الناتج عن الشركات الكبرى أن مئة شركة فقط، من بينها شركات نفط عملاقة، تسببت في أكثر من 70% من التلوث الصناعي الذي يؤثر على مناخ الأرض منذ عام 1988. كما ذكرت منظمة الصحة العالمية أن تلوث الهواء يؤدي إلى وفاة أكثر من 7 ملايين شخص كل سنة.


♻️  من النفط إلى الدماغ: الميكرو بلاستيك وقصة كوكاكولا

قد يبدو البلاستيك مادة عادية تُستخدم في الحياة اليومية، لكنه في الحقيقة امتداد مباشر لصناعة الوقود الأحفوري. فمعظم أنواع البلاستيك تُنتج من مشتقات النفط مثل الإيثيلين والبروبيلين، ما يجعل التلوث البلاستيكي ليس مجرد أزمة نفايات، بل أحد وجوه أزمة المناخ ذاتها.

ومع مرور الوقت، لا يختفي هذا البلاستيك، بل يتحلل إلى جزيئات صغيرة تُعرف بـ الميكرو بلاستيك، تتسلل إلى الماء والهواء والغذاء ثم إلى أجسادنا.  وفي عام 2022، كشفت دراسة علمية عن وجود جزيئات بلاستيكية دقيقة في دم الإنسان، ما أثار موجة من القلق بشأن تأثيرها على الصحة العامة — من اضطرابات الجهاز المناعي، إلى الالتهابات المزمنة، واحتمال التسبب بأمراض عصبية على المدى الطويل. 

لكن الكارثة لا تبدأ عند المستهلك، بل عند الشركات التي تُغرق الأسواق بالبلاستيك دون مساءلة. وفي المقدمة، تقف كوكاكولا. تنتج كوكاكولا أكثر من 3 ملايين طن من البلاستيك سنويًا  أي ما يعادل 200,000 عبوة في الدقيقة الواحدة, ورغم ادعاءات حرصها على تطبيق “الاستدامة”،إلا أن التقارير تظهر أن أقل من 10% فقط من هذا البلاستيك يُعاد تدويره فعليًا، بينما تُحرَق معظم العبوات أو تُدفن في مكبات عشوائية أو تُصدَّر إلى دول فقيرة لا تملك القدرة على معالجتها مما يفاقم التلوث البيئي العالمي.

وفي تقرير صادر عن منظمة "التحرر من البلاستيك 2023"، تم توثيق أكثر من 480,000 قطعة نفايات بلاستيكية جُمعت من 84 دولة حول العالم. وتصدّرت شركة كوكاكولا القائمة للسنة السادسة على التوالي كأكبر ملوث بلاستيكي عالمي، تليها نستله وبيبسيكو ويونيليفر.

الأخطر من ذلك أن هذه الشركات تدرك تمامًا التبعات البيئية لنفاياتها، وتعرف أن أنظمة التدوير الحالية غير كافية، وأن منتجاتها تُسهم في تلوث المحيطات وتتسلل إلى السلسلة الغذائية لتصل في النهاية إلى أجساد البشر. ورغم هذه الحقائق، تواصل هذه الشركات اعتمادها على البلاستيك لأنه أرخص تكلفة، وأكثر ربحية، وأسهل في التوزيع. 


🌿الاستدامة المزيفة: كيف تستخدم الشركات الغسيل الأخضر لتضليل المستهلكين (Greenwashing)؟

لا يقتصر دور الشركات الكبرى المسببة للتلوث البيئي على الإنتاج المفرط والنفايات فقط، بل يتعداه إلى تجميل صورتها أمام الرأي العام تحت شعارات براقة مثل “الاستدامة” و”الحياد الكربوني”، أي الادعاء بأنها تعوض عن انبعاثاتها الكربونية لتبدو صديقة للبيئة.

هنا تحديدًا يبدأ ما يُعرف بـ “الغسيل الأخضر” (Greenwashing) — استراتيجية تسويقية تهدف إلى إخفاء الأثر البيئي الحقيقي لنشاط الشركات، عبر حملات إعلامية لامعة تخدع المستهلك وتخفف من الشعور بالذنب الجمعي.  فعندما تتعرض هذه الشركات لانتقادات حول دورها في تدمير البيئة، لا ترد بالصمت، بل تُطلق شعارات منمقة مثل: “نحن نهتم بالكوكب”، “عبواتنا قابلة لإعادة التدوير”، أو “بحلول 2030 سنصل إلى الحياد الكربوني”

على سبيل المثال، تُروّج شركات مثل كوكاكولا لعبوات “قابلة لإعادة التدوير”، رغم أن أكثر من 90% من عبواتها لا يُعاد تدويرها فعليًا، بل تُنقل إلى مكبات النفايات أو تُحرق، أو تُصدّر إلى دول نامية لا تملك البنية التحتية اللازمة لإعادة المعالجة.

هذا النوع من التسويق يُسهم في تضليل المستهلك، حيث يعتقد أنه يدعم شركة مسؤولة بيئيًا، بينما الحقيقة أنها تسهم بشكل كبير في تفاقم أزمة التلوث، سواء من خلال إنتاج البلاستيك أو الانبعاثات الكربونية المرتبطة به.


الاستعمار البيئي: كيف تصدّر الشركات الكبرى نفاياتها إلى دول الجنوب؟

يُطلق على واحدة من أخطر الممارسات البيئية اليوم مصطلح “الاستعمار البيئي” وهي سياسة تنتهجها شركات كبرى مثل كوكاكولا، نستله، بيبسيكو، ويونيليفر. تنتج هذه الشركات ملايين الأطنان من النفايات البلاستيكية سنويًا، ثم تنقل جزءًا كبيرًا منها إلى دول نامية في آسيا وإفريقيا، حيث تفتقر هذه الدول إلى البنية التحتية اللازمة لإدارة أو إعادة تدوير هذه النفايات بشكل آمن، مما يؤدي إلى تراكم النفايات، حرقها في العراء، أو تسرّبها إلى المياه والتربة.

​وفقًا لتقرير "تدقيق العلامات التجارية 2023" الصادر عن حركة "تحرر من البلاستيك" (Break Free From Plastic)، تم العثور على نفايات من إنتاج شركات كبرى مثل كوكاكولا، نستله، بيبسيكو، ويونيليفر في أكثر من 80 دولة حول العالم، غالبًا في المكبات العشوائية أو على الشواطئ، دون أي التزام حقيقي من الشركات بتنظيفها أو تغيير أنماط إنتاجها.​


🔬 هل هناك بدائل حقيقية للبلاستيك؟ 

رغم الصورة القاتمة التي ترسمها ممارسات الشركات الكبرى، إلا أن الحلول موجودة وتتطور بسرعة. من أبرزها:

  • البلاستيك الحيوي المصنوع من مصادر طبيعية مثل الذرة، قصب السكر، أو الطحالب.
  • مواد تغليف قابلة للتحلل حيويًا، مثل تلك المصنوعة من الفطريات أو ألياف النباتات.
  • التغليف القابل لإعادة الاستخدام، وهو ما أوصت به الأمم المتحدة للبيئة باعتباره أحد الحلول الجذرية لتقليل النفايات البلاستيكية.

أظهرت دراسات نُشرت في  في مجلة "علوم البيئة الشاملة" أن استخدام مواد بديلة مثل البلاستيك الحيوي والتغليف القابل للتحلل قد يُساهم في تقليل الأثر البيئي للبلاستيك، بشرط توفر بنية تحتية متخصصة لإدارته، مثل أنظمة التسميد الصناعي أو إعادة التدوير الحيوي.

وبالتوازي، بدأت عدة دول — أبرزها دول الاتحاد الأوروبي — منذ عام 2021، بفرض حظر تدريجي على المنتجات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد، في إطار توجه نحو الحد من التلوث وتعزيز الاقتصاد الدائري. ورغم أن هذه البدائل لا تقدم حلًا جذريًا، إلا أنها تمثل خطوة أولى ضرورية.


🛑 المقاطعة الواعية: أداة مقاومة ضد الشركات الملوثة

نعم، الشركات الكبرى تتحمّل المسؤولية الأكبر في تدمير البيئة، لكننا لسنا بلا دور. كل منتج نستهلكه هو موقف: إما يعيد إنتاج الكارثة، أو يفتح بابًا للتغيير. ليس المطلوب أن نعيش بلا بلاستيك، بل أن نُدرك ما ندعمه بأموالنا ووعينا. فكما نُقاطع الشركات المتورطة في دعم الاحتلال الإسرائيلي — والتي الكثير منها مدرج كأحد أكبر المسببين في الدمار البيئي، مثل كوكاكولا — علينا أيضًا أن نُقاطع من يلوّث أرضنا ويخدعنا بشعارات الاستدامة.

ومع ذلك، بدأت البدائل الحقيقية تظهر: البلاستيك الحيوي المستخلص من النباتات، التغليف القابل للتحلل، وحظر بعض المنتجات الضارة. هذه الحلول موجودة، لكنها بحاجة إلى وعي شعبي وضغط جماهيري لتحويلها إلى واقع ملموس.

المقاطعة ليست فقط رفضًا… بل فعل مقاومة، وخطوة نحو مستقبل أنظف، نكتبه نحن، بما نختاره وما نرفضه.

احصل على إشعار لكل مقال جديد!